إبراهيم مصطفى (جريدة البناء)
ليست التربية ترفاً يُلقَّن في قاعات مغلقة، ولا خُطباً تُقال في مناسبات عابرة، بل هي بناء الإنسان على وعي بالكرامة قبل الطاعة، وعلى معرفة بالحق قبل السلوك، فالأصل في التربية أن تُنبت في النشء جذور الرفض، وأن تُحصّن الوعي من الخضوع، وألّا تُدرّب الأبناء على الانحناء لغير الحق أو التكيّف مع الباطل حتى يصير مألوفاً، فالتطبيع ليس توقيعاً على ورقة سياسية تُطوى في الأرشيف، بل تسلّل ناعم إلى الوجدان، يبدأ من الصورة الإعلامية وينتهي إلى الضمير، ومن الأغنية العابرة إلى الفكرة الخبيثة، هو محو متدرّج للفصل بين القاتل والقتيل، بين الغاصب وصاحب الحق، بين من يدافع عن أرضه ومن يسطو على أرض غيره…
التربية الحقّة لا تُخرّج أبناء مطواعين في القول، بل أحراراً في الموقف، ولا تُنشئ جيلاً يُجيد الانحناء، بل جيلاً يُتقن الوقوف، فأن نُقاوم التطبيع هو أن نزرع في الطفل منذ نعومة وعيه أنّ العدالة ليست رأياً، وأنّ فلسطين ليست نشرة أخبار منسية، بل جرح الأمة النابض، وأنّ المساومة على الحق ليست سياسة، بل سقوط في هاوية العار، وحين تختزل المدرسة إلى جدران تردّد المناهج دون وعي بالقيم، تُصاب التربية بالعقم، وحين يُربّى الجيل على أنّ العدو جار متقدّم لا محتلّ غاصب، نكون قد وقّعنا على شهادة موت الضمير، فالتطبيع في جوهره ليس تسوية سياسية، بل عملية تخدير للأمة، يطمس البوصلة الأخلاقية، فيغدو الاحتلال رأياً، والمقاومة إرهاباً، والحق خلافاً في وجهات النظر…
التربية، في أصل معناها، مقاومة صامتة، بل هي الجبهة الأولى قبل ميادين القتال، إذ نعلّم أبناءنا ألّا يُصفّقوا للظلم ولو جاء متوَّجاً باسم السلام، وألّا يُفتنوا ببريق حضارة تُشيّد على أنقاض الأبرياء، وأنّ العداوة ليست هواية ولا شعاراً، بل موقف حين يُغتصب الوطن، وأنّ الحب الحق لا يُلغي الرفض، كما أنّ التسامح لا يعني النسيان، ولسنا نريد لأطفالنا أن يرثوا الكراهية، بل أن يرثوا الوعي، أن يعلموا أنّ التطبيع ليس جسراً للتفاهم، بل باب تنازل، وأنّ مصافحة القاتل ليست سلاماً، بل طعنة للضحية، وأنّ من يخلط بين الحق والباطل يُربي جيلاً بلا بوصلة ولا انتماء…
معركة الوعي أقدس من معركة السلاح، فحين تكون التربية مقاومة، يصبح الوعي حصناً لا يُخترق، وحين نصون ذاكرة أبنائنا من التزييف، نكون قد حررناهم من أخطر احتلال على الإطلاق، احتلال الوعي، فالبيت والمدرسة والمسجد والجامعة ليست مؤسسات عابرة، بل خنادق تُدافع عن نقاء الوعي وصدق الهوية…
أصل التربية أن نُقاوم التطبيع، لأننا حين نُربّي على الكرامة، لا نحتاج إلى معارك كثيرة، فالعقل الحر لا يُستعبد، والقلب الذي يعرف الحق، لا يُصافح الباطل، وإن أمة تُحسن تربية أبنائها على الرفض، أمة تعرف طريق النهوض، مهما اشتدّ عليها الليل، ومهما طال زمن الخديعة…