اوراق خاصة

ضدّ الميليشيات أم ضدّ المقاومة؟

post-img

معتز منصور / قومي عربي

تُروّج السعودية والإمارات، منذ سنوات، خطابًا متكرّرًا عن رفض الميليشيات و"ضرورة احتكار الدولة للسلاح" و"مواجهة الفوضى المسلحة". في الظاهر، يبدو هذا الموقف منطقيًا ومنسجمًا مع فكرة الدولة الوطنية الحديثة. لكن حين ننتقل من الشعار إلى الواقع، نجد أن المبدأ لا يُطبَّق إلا على فصيلٍ واحد: المقاومة العربية التي تواجه إسرائيل. أمّا الميليشيات التي تخدم أجنداتهما أو تفتح لهما أبواب النفوذ الإقليمي، فمرحبٌ بها ومموَّلة ومدعومة.

السودان.. الميليشيا الحليفة

في السودان تتضح المفارقة أكثر من أي مكان آخر. الإمارات – بشهادة تقارير الأمم المتحدة ووسائل إعلام دولية – هي الداعم الرئيس لقوات “الدعم السريع” بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي). والمال والسلاح والتغطية السياسية كلها جاءت من أبوظبي عبر طرائق معروفة تمرّ بتشاد وليبيا. والميليشيا التي تُقاتل الجيش الوطني وتُهدّد وحدة الدولة، لم تُدان خليجيًا إلا حين تغيّرت موازين القوى.

لذلك السؤال : أين ذهب شعار "لا سلاح إلا بيد الدولة"؟

ذهب مؤقّتًا، لأن الخطاب يسقط حين تصبح الميليشيا أداة نفوذ تخدم المصالح.

سوريا.. من "الثورة" إلى الفوضى

في سوريا تكرّر المشهد نفسه. منذ 2011 ضُخّت مليارات الدولارات الخليجية لتسليح جماعات مسلّحة تحت لافتات "الثورة" و"الجيش الحر" و"الدفاع عن المدنيين". لكن النتيجة كانت دمارًا شاملًا، ومئات الفصائل المتناحرة التي فتكت ببنية الدولة والمجتمع. وحين تغيّرت المعادلة، وظهر أن كثيرًا من هذه الفصائل تتحرك بأوامر تركية أو غربية، تراجع الممولون بصمت، كأنهم لم يكونوا جزءًا من الكارثة. ومن يمول الفوضى لا يملك حق الادعاء بحماية الدولة.

العراق.. ازدواجية الموقف

أما في العراق، فالمعيار كان طائفيًا بحتًا. حين كانت الميليشيات السنية تقاتل النفوذ الإيراني، وُصفت بأنها "مقاومة مشروعة". وحين ظهرت الميليشيات الشيعية الموالية لطهران، صارت "تهديدًا لوحدة العراق". الموقف لا علاقة له بمبدأ، بل باصطفافٍ سياسي؛ فالسلاح مقبولٌ إن خدم الاصطفاف الخليجي، ومرفوضٌ إن خالفه. وهكذا تحوّل شعار "رفض الميليشيات" إلى غطاء لتصفية حساباتٍ إقليمية، لا لمساندة الدولة الوطنية.

فلسطين.. لبّ القضية

لكن المشهد يتعرّى تمامًا في فلسطين..فهنا تتكشّف النوايا: ليست المشكلة في “الميليشيات” الفكرة، بل في اتجاه السلاح نفسه. حين يكون السلاح موجَّهًا إلى إسرائيل، يصبح غير شرعي" و"خارجًا عن القانون"، ويُتَّهم حامله بالإرهاب. أما حين يُوجَّه إلى جيوشٍ عربية أو إلى خصومٍ سياسيين، يصبح السلاح "قوةً محلية" أو "أداة توازن"!

لبنان.. سلاح الحزب في مرمى "الاعتدال"

حين نصل إلى لبنان، تتضح الصورة أكثر؛ فالكيان الغاصب يرى سلاح الحزب التهديد الأول لأمنه، ويضغط ليل نهار لنزعه أو تحييده. ومنذ انتهاء حرب 2006، تحوّل مطلب "نزع السلاح" إلى بند دائم في الخطابين الأمريكي والإسرائيلي. واليوم، بعد الحرب الأخيرة على غزة واشتداد المواجهة على الحدود، تعود الضغوط السياسية والاقتصادية على بيروت لفرض ما يسمّى "حصرية السلاح بيد الدولة". والغريب أن السعودية والإمارات تبنّتا الخطاب نفسه، تمامًا كما تتبناه تل أبيب وواشنطن.

إذ بدل أن يُنظر إلى سلاح الحزب عاملَ ردعٍ استراتيجي ضدّ العدوان الإسرائيلي، يُصوَّر على أنه "سبب الأزمات" و"عائق الإصلاح"... بل إن المساعدات المالية وإعادة الإعمار تُربط اليوم صراحةً بموقف الحكومة اللبنانية من سلاح الحزب! وفي الواقع؛ أن السعودية والإمارات لا تعاديان الميليشيات، بل تعاديان سلاح المقاومة، لأنه السلاح الوحيد الموجَّه ضدّ إسرائيل، ولأنه يُفشل مشروع “الشرق الأوسط الجديد” الذي يقوم على التطبيع الكامل والهيمنة الاقتصادية والأمنية للصهاينة على الإقليم.

هكذا يُعاد إنتاج منطقٍ مقلوب: من دعم “الجيش الوطني” في السودان ضدّ ميليشيا انفصالية، إلى دعم مطلب إسرائيلي بنزع سلاح مقاومةٍ لبنانية تواجه الاحتلال.

المعيار ليس الدولة، بل الولاء السياسي.. فإذا كان السلاح موجهًا ضدّ العدو، صار “خطرًا على الاستقرار”، وإذا وُجّه ضدّ محور المقاومة، صار “إصلاحًا للدولة”.

معركة الوعي العربي

ما يُراد في الحقيقة هو تجريد العرب من آخر أدوات الردع. بعد أن جُرِّدت جيوشٌ عربية من دورها القومي، وبعد أن غُيّبت إرادات الشعوب تحت شعارات الإصلاح والاستقرار، بقيت المقاومة في غزة ولبنان واليمن رموزًا حية لفكرة العروبة الحرة. وهذه الرموز هي ما تخشاه أنظمة التطبيع، لأنها تذكّر الشعوب بأن الكرامة لا تُشترى، وأن الاستقرار لا يكون بقتل الروح الوطنية.

من يهاجم سلاح المقاومة، اليوم، بحجة "الميليشيا" ينسون أن كل تحرّر وطني بدأ من بندقيةٍ متمرّدة. عبد الناصر نفسه لم ينتظر "إجماع الأمم المتحدة" ليؤمم قناة السويس، ولم يستأذن الاستعمار قبل أن يدعم ثوار الجزائر واليمن وفلسطين. الناصرية كانت وما تزال فكر الموقف لا المساومة، وفكر الانتماء للشعوب لا للحاكم أو للصفقة.

خلاصة الموقف القومي

القضية إذًا ليست سلاحًا ولا ميليشيا. القضية: لمن وُجِّه السلاح، وضدّ من تُشنّ الحرب.

من يوجّه سلاحه إلى إسرائيل وأسيادها، يُحاصَر ويُشيطن، ومن يوجّهه إلى جيشٍ عربي أو خصمٍ سياسي، يُموَّل ويُدعى إلى المؤتمرات. والناصرية ترى أن العدوّ واحد: الاستعمار وأدواته، من تل أبيب إلى كل من يخدمها ولو من غير وعي..فمن يهاجم سلاح الحزب بلبنان أو سلاح غزة اليوم، لا يدافع عن الدولة، بل ينفّذ رغبة الكيان الغاصب في إفراغ الأمة من روحها المقاومة.

الأمة التي تُسلِّم سلاحها للعدو، تُسلِّم مستقبلها معه. أما الأمة التي تصون سلاح المقاومة، فهي التي تبقى.

وهذا هو جوهر العروبة التي نعرفها ونؤمن بها.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد