اوراق مختارة

حرب لبنان وآثار "كوميدي" الفرعونية: بين التدمير الإسرائيلي والاتفاقيات المثيرة للجدل

post-img

أحمد كموني/ الجزيرة نت

نفّذت "إسرائيل" أوسع عملية نهب منظّم لآثار مملكة "كوميدي" الفرعونية في كامد اللوز، التي يعود تاريخها إلى الألف الخامس قبل الميلاد، وذلك خلال احتلالها للبقاع الغربي من 5 يونيو/حزيران في العام 1982 حتى انسحابها منه في 25 أبريل/نيسان عام 1985. ولم تسلم آلاف القطع الأثرية من النهب والتسفير خارج البلاد، خصوصا أثناء الحرب اللبنانية بين عامي 1975 و1990.

في كامد اللوز موقع يطلق عليه الأهالي "طريق مصر" وآخر "طريق الشام"، مما يؤكد أهمية موقعها الجغرافي ودوره في زمن الإمبراطوريات القديمة. تزنّرها مجموعة من الجبال الوعرة الغنية بالمغارات والكهوف، وتبعد عن العاصمة اللبنانية بيروت نحو 70 كيلومترا. يبلغ عدد سكانها 7 آلاف نسمة، ويعتمد أهلها على الاغتراب كمصدر رزق أساسي، يليه العمل في التجارة والزراعة.

كتبت عالمة الآثار الألمانية مارلينز هاينز في مخطط وضعته لمركز توثيق في البلدة، بالتعاون مع المديرية العامة للآثار، لم يُفتتح بعد، أن "تاريخ كامد اللوز يمتد من العصر البرونزي المبكر إلى العصر البرونزي المتوسط (حوالي 2000 إلى 1500 ق.م)، ثم الإمبراطورية المصرية (من 1550 إلى 1200 ق.م)، فالإمبراطورية الفارسية (550 إلى 330 ق.م)، تلتها الإمبراطورية اليونانية (330 إلى 30 ق.م)، فالإمبراطورية الرومانية (30 إلى 300 ميلادية)".

ذكرت في مخططها أن "أول مشروع تنقيب أثري في كامد اللوز بدأ عام 1963 تحت إشراف عالم الآثار الألماني هاخمن من جامعة سارلاند، بالتعاون مع مديرية الآثار الوطنية اللبنانية وجامعة يوهانس غوتينبرغ. وقد توقفت أعمال التنقيب بسبب اندلاع الحرب اللبنانية الداخلية (1975 إلى 1990)، وهي الفترة التي تعرّض خلالها الموقع للتخريب والتدمير الجزئي".

مملكة منسية ومكتشفات غير عادية

أقدم المكتشفات في الموقع الأثري في كامد اللوز أوردها رئيس مصلحة الحفريات السابق في المديرية العامة للآثار، الدكتور إبراهيم كوكباني، في مقالة له بعنوان "مملكة منسية" نشرها في شهر أبريل/نيسان عام 1974 في مجلة "الأرشيف".

تعود هذه المكتشفات إلى القرن الخامس قبل الميلاد، إذ ورد اسم كامد اللوز في حوليات "تحتمس الثالث" المدونة على جدران معبد الكرنك في مصر تحت اسم "كاميتي"، كما ورد أيضا في رسائل تل العمارنة المكتشفة في مصر في العام 1887 في عهد أمنحتب الرابع (أخناتون)، وذلك تحت اسم "كوميدي" أي "مدينة الفرعون الطيبة".

أما أبرز المكتشفات، بحسب نتائج التنقيب التي أجرتها البعثات الألمانية، وخلاصة دراسة لرئيسة قسم الآثار في الجامعة اللبنانية، الدكتورة الراحلة منى نخلة، عام 1994، فهي: قصر ملكي ومعابد تعود إلى العصر البرونزي، لوحات من الآجر عليها كتابات مسمارية، مثاقيل من الذهب، أسلحة مصنوعة من البرونز، قوس نشاب، والكثير من الأواني الملكية، وإناء من الغرانيت مدون عليه بالهيروغليفية، إضافة إلى مشاغل ومساكن متخصصة في صناعة عجينة الزجاج المكوّن من الرمل والصودا، وأوان فخارية مزخرفة تحمل كتابات متنوعة، منها الهيروغليفية المصرية، والمسمارية الأكدية، والمسمارية الأبجدية من النمط الأوغاريتي، فضلا عن كتابات محلية غير مسمارية، وأختام فينيقية، وأدوات مصنوعة من العاج. ولكن، ما مصير كل تلك المكتشفات؟

آثار "كوميدي" في ألمانيا

يجيب أستاذ مادة التاريخ في الجامعة اللبنانية، حسين ساطي، الذي أصدر عدة كتب عن الموقع الأثري لبلدته، بالإشارة إلى مساحة موقع التل البالغة 47.079 مترا مربعا وتصنيفه في العام 1974 كموقع أثري.

أضاف: "في العام نفسه، وُقعت اتفاقية بين لبنان ممثَّلا بمدير عام الآثار، الأمير الراحل موريس شهاب، والبعثة الألمانية. الاتفاق، في أحد بنوده، منح البعثة الألمانية حقا في حصة من المكتشفات وحقوق النشر". وتابع ساطي أن مضمون الاتفاق أخذ طريقه إلى التنفيذ فور اندلاع الحرب اللبنانية عام 1975، فنُقلت المكتشفات إلى ألمانيا، وخضع معظمها لعمليات ترميم، وحُفظ بشكل مُحترف ليُعرض بعدها في 8 مدن ألمانية. كما نشر البروفيسور هاخمان حولها 15 مجلدا باللغة الألمانية محفوظة اليوم بمديرية الآثار اللبنانية، لكنها لم تُترجم بعد.

يجزم ساطي بأن لبنان استعاد الكثير من القطع والآثار من ألمانيا إلى المتحف الوطني اللبناني، لكن هذا لا يعني "أننا استعدنا كامل تراثنا الوطني من ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية والأميركية. هناك تماثيل وأدوات زينة وأساور وقطع نفيسة تحتاج إلى جهد أكبر من المعنيين لاستعادتها".

مركز توثيق أم متحف؟

وفي هذا الإطار قال عضو المجلس البلدي، حسام طه، للجزيرة نت "نعمل كمجلس بلدي لمتابعة هذا الموضوع عبر تحرك بدأناه باتجاه نواب في البرلمان اللبناني ووزارة الثقافة لاستعادة ما هُرب وسُرق داخل البلاد أو إلى الخارج. ويضيف "نسعى إلى إزالة التحفظات الإدارية أو البيروقراطية التي حالت حتى اليوم دون افتتاح ما نريده متحفا لآثار "كوميدي" في البلدة قرب الموقع الأثري، بينما يريدونه في المديرية العامة كمركز توثيق ليس أكثر، مع العلم أننا لم نحصل على أي منهما".

عن واقع موقع التل الميداني اليوم قال "أرض بور جرداء لا توحي بأنه موقع أثري. صحيح أن المديرية أحاطت الموقع بشريط شائك ووضعت حارسا عليه، إلا أن الموقع حزين جدا وبائس نتيجة إهمال غير طبيعي. فعلا، مملكة بائسة منسية لأسباب كثيرة".

لماذا دمرت "إسرائيل" الموقع؟

فقدان آثار "كوميدي" القيّمة خلال الحرب اللبنانية الداخلية، أو ضياع بعضها في طيات الاتفاق مع البعثة الألمانية، ليس بأقل كارثية من فعل العدو الإسرائيلي عندما احتل كامد اللوز عام 1982، بحسب رأي رئيس نادي كامد اللوز الثقافي، بسام طه، الذي قال للجزيرة نت "إن العدو الإسرائيلي أقام مركزا عسكريا فوق قمة موقع الآثار قرب مقام الشيخ يونس التغلبي عام 1982".

بعد أن أشار إلى الإجراءات القهرية التي منع بموجبها العدو أيًا من المواطنين من الاقتراب من المكان، تابع طه كشاهد عيان "أنا وأهالي بلدتي شاهدنا من منازلنا المجاورة للموقع عمليات تنقيب يدوية وآلية كثيفة طيلة فترة الاحتلال". وأضاف "نحن لا نعلم على ماذا استولوا، وما شاهدته مع أبناء البلدة أنهم قبيل انسحابهم عمدوا إلى تغيير معالم الموقع وتجريف آثار التنقيب مستخدمين جرافات ضخمة، ما حوّل الموقع إلى تلة جرداء ما زالت على حالها حتى اليوم".

أشار طه إلى أن مقاومة أهالي البلدة للمحتل في تلك الفترة، حيث نفذوا عشرات العمليات وسقط منهم شهداء في البلدة أو الجنوب مثل جمال ساطي وعبد اللطيف واكد وصلاح حمود، زادت من عمليات القمع والتخريب والانتقام. والتفسير الوحيد، برأي طه، "هو معاقبة كامد اللوز لدورها في المقاومة العسكرية والشعبية بمواجهة المحتل، ومن جهة ثانية، سرقة وتدمير الموقع كنهج يتبعه العدو الإسرائيلي لتزوير تاريخ المنطقة".

ما موقف الوزارة من هذا الملف؟

أكدت مصادر وزارة الثقافة والمديرية العامة للآثار للجزيرة نت أن "تكوين ملف بالاعتداءات الإسرائيلية التي استهدفت مواقع أثرية في لبنان أو حصلت فيها سرقة آثار، ملف شائك لكنه متابع من قبلنا بعناية. والأمر نفسه ينطبق على البحث عن مصير أي قطعة أثرية تخص لبنان في الخارج بهدف استردادها بالطرق والأساليب الدبلوماسية والقوانين التي ترعاها الاتفاقات الدولية بهذا الخصوص".

بشأن متابعة التنقيب وتقدير أضرار التدمير الإسرائيلي في موقع "كوميدي"، أشارت المصادر إلى أن "أعمال التنقيب توقفت عام 2011. واليوم، انطلقنا بخطوة جديدة مشتركة بين المديرية وجامعة فراي برلين والجامعة اللبنانية، ليس للبدء بحفريات جديدة، بل لإعادة تأهيل الموقع لاستقبال الزوار".

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد