محمد وهبة (صحيفة الأخبار)
اعتباراً من الأسبوع المقبل ستبدأ لجنة المال والموازنة بتوجيه الدعوات لمناقشة مشروع موازنة 2026. هذه النقاشات ستحصل على وقع نتائج مشاركة الوفد اللبناني في اجتماعات صندوق النقد والبنك الدوليين. ومن أبرز مطالب الصندوق أن تعكس الموازنة كل عمليات الإنفاق والإيرادات وأن يُتاح بعد ذلك تكوين فائض أولي بنسبة 1.7% من الناتج المحلي الإجمالي.
أي إن مشروع الموازنة بصيغته الحالية بعد إحالته من الحكومة إلى مجلس النواب هو «فايك»، أي «مزوّر» أو «وهمي»، لأنه لا يتضمن ديناً بقيمة تفوق المليار دولار، وأُدرجت فيه مبالغ غير واضحة لإعادة الإعمار ضمن باب «احتياط الموازنة» وليس فيه النفقات المتعلقة بتسديد ثمن الفيول العراقي... باختصار أرقام مشروع الموازنة تحتاج إلى «تعديل في إطار مفهوم شمولية الموازنة» وفقاً لرئيس لجنة المال والموازنة إبراهيم كنعان.
كان مشروع موازنة 2026 من أبرز الملفات التي نوقشت في واشنطن بين ممثلي لبنان وممثلي صندوق النقد الدولي، علماً أن الوفد اللبناني ليس وفداً واحداً، بل وفود مدعوة من جهات مختلفة. وكل ما قيل للمسؤولين اللبنانيين، سواء في وزارة المال ومصرف لبنان ولجنة المال وسواها، سبق أن سمعوه في الزيارة الأخيرة لصندوق النقد إلى لبنان والتي حصلت في النصف الأخير من شهر أيلول الماضي.
يومها أصدر رئيس بعثة الصندوق إلى لبنان ارنستو ريغو، بياناً في ختام الزيارة، يشير فيه إلى أن «البعثة ركزت بشكل أساسي على جهود السلطات لإعادة تأهيل القطاع المصرفي وموازنة الحكومة لعام 2026»، مضيفاً بأن الصندوق «يتوقّع اتباع نهج أكثر طموحاً في موازنة الحكومة لعام 2026 مقارنةً بالمسوّدة التي أقرها مجلس الوزراء»، وأنه رغم تضمين الموازنة تصوراً لإجراءات لتوسيع القاعدة الضريبية وتحسين الامتثال، إلا أنه «ينبغي أيضاً النظر في إصلاحات السياسة الضريبية لتوفير حيّز مالي للإنفاق ذي الأولوية على إعادة الإعمار والحماية الاجتماعية. ويثير إلغاء ضرائب الإنتاج على الوقود مخاوف جدية بشأن قدرة الحكومة على تمويل إنفاقها.
أما في ما يتعلق بالنفقات، فيجب تسجيل جميع البنود المتوقّعة بشفافية، بما في ذلك تلك الممولة خارجياً. وبشكل عام، يجب أن تكون قرارات الإنفاق متّسقة مع التمويل المتاح». فضلاً عن ضرورة «اعتماد إطار مالي طموح متوسط الأجل، وهو أمر ضروري لوضع إستراتيجية موثوقة لاستعادة القدرة على تحمل الديون».
المسألة كلّها تتعلق بـ «شمولية الموازنة» وفقاً لكنعان. فما هو مطلوب اليوم أن تعبّر الموازنة عن النفقات الفعلية والإيرادات الفعلية، وأن يكون لديها فائض مالي. ففي المشروع المحال من الحكومة إلى مجلس النواب، ثمة الكثير من بنود الإنفاق التي لم تدرج فيها مثل القروض الخارجية. وهذا ما يقصده ريغو عندما أشار إلى تسجيل البنود بشفافية بما في ذلك الممولة خارجياً.
فالحكومة قرّرت وبشكل مستغرب، أن تبقي الحكومة أربعة قروض حصلت عليها بقيمة إجمالية تبلغ 1.03 مليار دولار خارج الموازنة، وهي: 250 مليون دولار قرض إعادة الإعمار من البنك الدولي مضافاً إليه قرض فرنسي بقيمة 75 مليون دولار للغاية نفسها، 200 مليون دولار قرضاً للزراعة، 250 مليون دولار قرضاً للطاقة المتجددة، و257.8 مليون دولار قرضاً للمياه.
تضمين هذه المبالغ في الموازنة يعني زيادة في أرقام الدين العام. كذلك سأل ممثلو صندوق النقد الدولي عن ثمن الفيول العراقي غير المسدّد بعد، مشيرين إلى ضرورة تضمينه في الموازنة، وأيضاً هناك مسألة مهمّة تتعلق بإعادة الإعمار التي قال وزير المال ياسين جابر إنه أدرجها ضمن «احتياط الموازنة» من دون أي تبرير لهذه الخطوة سوى أن الكلفة المزمع دفعها على الترميم الإنشائي ليست محدّدة بعد. وزير آخر قال لـ«الأخبار» إن قلق الوزراء من تضمينها يعود إلى الاتهامات التي يمكن أن تلحق بوزير المال إذا كانت الكلفة أقلّ مما أُدرج تقديرياً في الموازنة.
هذا الأمر لا يراه الصندوق على أنه مبرّر لتغييب الأرقام الفعلية عن الموازنة التي ستصبح «فايك» وفقاً للتعبير الذي استعمله ريغو، إذا غيّبت منها أرقام النفقات والدين بشكل واضح، لأن الأرقام الحقيقية ستؤثّر في نتائج الفائض المالي المرتقب وعلى قدرة الخزينة على احتمال الدين أو ما يسمّى بـ«استدامة الدين».
والواقع، أن الموازنة لم يدرج فيها الدين العام بشكل واضح، ولا خدمة الدين، بذريعة أن الجزء الأكبر من الدين يعود إلى حمَلة سندات اليوروبوندز التي لم يُعرف بعد حجم الاقتطاع منها الناتج من إعادة هيكلة الدين العام. وبحسب كنعان، فإن «مبدأ شمولية الموازنة شدّدت عليه لجنة المال منذ 2010، لكن الحكومة ما تزال تعمل وفقاً للمسار السابق الذي بدأ في التسعينيات وقضى بألا يتم إدراج كل العمليات المالية في الموازنة».
لذا «عندما سيبدأ النقاش في الموازنة في لجنة المال والموازنة اعتباراً من الأسبوع المقبل، سأطلب من الحكومة إرسال كل الداتا واعتمادات القروض وإدخالها في الموازنة وهو ما سينعكس على توازن الموازنة، لأنه يزيد النفقات ويزيد الدين». ويشير كنعان إلى أنه من دون التقيّد بهذا المبدأ سيكون احتساب العجز والنموّ عملية مضلّلة لها تبعات على الوضع الاقتصادي الذي تشكّل الموازنة جزءاً أساسياً منه.
لا تمويل قبل «السياسة»
بحسب المعلومات الواردة من لقاءات المسؤولين اللبنانيين في اجتماعاتهم مع مسؤولي صندوق النقد ووزارة الخزانة الأميركية، إن بعض النقاشات، ولا سيما مع مسؤولي وزارة الخزانة تركّز على مسائل أساسية من أبرزها القرض الحسن، السوق السوداء واقتصاد الكاش.
وهذه المسائل مرتبطة عملياً بمطالب أميركية ذات طابع سياسي مطروحة اليوم بشكل شبه علني، وهي المتعلقة بـ «السلاح» و«المفاوضات المباشرة» وفقاً لما يقول النائب إبراهيم كنعان.
ويقول كنعان إن «أجواء الإدارة الأميركية واضحة تجاه التعامل مع كل هذه القضايا من دون تجزئة: قالوا لنا إنه لا يمكن نقاش أي مسألة تتعلق بالتمويل أو بأي حلول اقتصادية ومالية قبل تنفيذ ما هو مطلوب سياسياً».
التدقيق بدين «المركزي» على الدولة
يدّعي مصرف لبنان أن لديه ديوناً على الدولة اللبنانية بقيمة 16.5 مليار دولار، وتدّعي وزارة المال أن هذا الدين هو عبارة عن الأموال التي نتجت بسبب سياسة محاسبية مقصودة من مصرف لبنان لتحريف الوقائع، إذ إنها حوّلت الأموال بالليرة إلى مصرف لبنان ليدفع بالدولار إلى الخارج كونه مصرف الدولة، لكن الحاكم السابق رياض سلامة صنّف التحويلات من الخزينة والمدفوعات إلى الخارج في حسابين منفصلين، أي دائن ومدين، وكان الحسابان يساويان بعضهما البعض إلى أن انهارت قيمة الليرة وصار الحساب بالدولار أكبر بكثير من حساب الليرة وصارت قيمته ديناً على الدولة بقيمة 16.5 مليار دولار.
الخلاف لم يُعالج بعد، وإن كان صندوق النقد الدولي يرى وجوب تصفية هذا الدين لأنه يؤثّر في إستراتيجية «استدامة الدين»، لكن مصرف لبنان يرى أنه يعالج مشكلة الملاءة لديه لأنه سيبقي في ميزانيته مبلغاً ليس من الضروري تحصيله لكنه يوازي المطلوبات الهائلة في ميزانيته. الخلاف ليس مستحدثاً، وقد نوقش الأمر في الاجتماعات التي عقدت في واشنطن بمشاركة ممثلين من صندوق النقد الدلوي ووزير المال ياسين جابر وحاكم مصرف لبنان كريم سعيد، واتفق على تشكيل لجنة للتدقيق في هذا الدين والعمل على معالجته عبرها.
التدقيق في أوضاع المصارف
يقول رئيس لجنة المال والموازنة النائب ابراهيم كنعان، إن محور النقاش مع صندوق النقد الدولي بشأن قانون الفجوة المالية وما يرتبط به انطلاقاً من مبدأ تراتبية توزيع الخسائر التي يطالب صندوق النقد بتطبيقها، هو التدقيق بميزانيات المصارف.
«فقد شرحنا لممثلي الصندوق أن مبدأ تراتبية توزيع الخسائر مطبّق في قانون معالجة أوضاع المصارف لكنه مرتبط أيضاً بإقرار قانون الفجوة المالية، لكن لا يمكن توزيع الخسائر من دون التدقيق بأوضاع المصارف.
فبحسب المادة الأولى من قانون معالجة أوضاع المصارف، يعدّ التدقيق أساس القرارات التي تتيح للجنة المعنية التأكّد من ضرورة اتخاذ إجراء بحقّ أي مصرف سواء لجهة الإصلاح أو الشطب أو أي إجراء آخر».
وأوضح أن مسألة التدقيق نائمة في الأدراج «من دون سبب واضح»، ففي حكومة الرئيس نجيب ميقاتي أجريت مناقصة لتلزيم التدقيق بكلفة 6 ملايين دولار، لكن لم تطبّق، وقد التقى كنعان الرئيس نواف سلام وأبلغه بأن الأمر بسيط ويحتاج إلى سحب الملف من الأدراج «وطلب مني تذكيره بهذا الأمر، لكن لم يحصل شيء بعد 8 أشهر على هذا اللقاء.
إفلاس المصارف بشكل اعتباطي كما يُروّج هو أمر شعبوي لا يخدم المسألة الأساس التي تحتاج إلى اتخاذ قرارات بدلاً من النقاش في دوائر لا نهاية لها».
ويشير إلى أن «الحكومات أنفقت مبلغاً يزيد على مليار دولار من الـSDR، وها هي تنفق اليوم مبالغ كبيرة أيضاً لكنها لا تخصص 6 ملايين دولار لإطلاق العلاج المتعلق بالمصارف، وهذا أمر مستغرب جداً».