د. عبدالله عيسى/كاتب وباحث لبناني
مع استمرار إحياء العام الأول على معركة "أولي البأس"؛ يمكن تسجيل أن الغرب المتوحّش بقيادة الولايات المتّحدة الأميركيّة وبيدٍ غليظةٍ إجراميّةٍ إسرائيليّة استطاع أن يوجّه ضربة قاسية لحزب الله في منظومته القياديّة وخبرائه وأمهر مقاتليه، وكذلك في وسائله القتاليّة الإستراتيجيّة عالية الدقّة. لكن في الوقت عينه، حفر التاريخ بأن هذا العدو، بطبقاته الدوليّة والإقليميّة، عجز عن تحقيق كامل أهدافه وهزيمة المقاومة الإسلاميّة، والتي صمدت صمودًا إعجازيًّا كبيرًا، فأجهضت أهدافه وكبّدته خسائر غير مسبوقة، على رأسها تهجير سكّان مغتصباته في شمال فلسطين المحتلّة.
كما فرضت المقاومة إيقاعها الصارم على الرغم من الفجوة الأمنيّة التي حدثت والتكنولوجيّة الذكيّة، وعزّزت قوّتها الرمزيّة بما رسّخته من قيم المؤازرة لقضايا الأمة وفلسطين والوطن، وبما وهبته من تضحيات (جيش نوعيّ من الشهداء)، وما رسمته من بطولات الملاحم وتلاحم مجتمعها المقاوم. هذا فضلًا عما كشفته الاستحقاقات الوطنيّة والشعبيّة من علامات التعافي المتلازمة مع النجاح بممارسة الغموض الأمنيّ والتكيّف السياسيّ وترقّب الآتي والإعداد له.
معركة إضعاف حزب الله ووهم ذريعة الإسناد
هذه النتيجة المؤقّتة في أقسى حرب "لمّا تنتهِ بعد"، بمدارها الدوليّ والإقليميّ المتحرّك، يمكن مقاربتها بالعودة إلى عمل بحثيّ شهير صدر عن معهد دراسات الأمن القوميّ، في "جامعة تل أبيب"، بعد أقل من سنة وستة أشهر على نهاية حرب تموز العام 2006، وهو كتاب "داني بركوفيتش" بعنوان "هل يمكن قطع رؤوس الهيدرا؟ معركة إضعاف حزب الله"، من أجل وعي ما جرى محرّرًا من "ذريعة الإسناد" التي انطلت على ضعاف العقول والنفوس.
بدايةً، يجب التنويه أن مرور الزمن لا يمنع علميًّا وعمليًّا من صدور أبحاث لاحقة لإبقاء صلاحيّة الإفادة من مضامين هذا الكتاب وإجراء التطبيق عليه، بل تبرز أهميّته بالنظر إلى مصدره وتزامن صدوره نسبيًّا مع مخرجات "لجنة فينوغراد" إثر الحرب الإسرائيليّة في العام 2006 على لبنان؛ ما يكشف الإرادة العدوانيّة والأغراض التوسعيّة الإسرائيليّة المستمرّة بعيدًا عن أي ذريعة من الذرائع.
خصّص "الباحث الإسرائيلي" كتابه للإجابة عن "كيفيّة إضعاف حزب الله"، والذي شبّهه بـ"الهيدرا"؛ أي كلّما قَطَعْتَ له رأسًا، نبت له رأسان. لذلك؛ مثلما يستحيل التخلّص من رؤوس هذا الكائن، يستحيل اقتلاع المقاومة أو القضاء عليها؛ لكن بنظر الكاتب هناك عدّة استراتيجيّات، لو اتبعتها "إسرائيل"، وضمنًا الولايات المتحدة الأمريكيّة، يمكن لهما عندها إضعافه وكذلك إضعاف أيّ حركة ودولة مُقاوِمة. وهذا ما يمكن رصده عند قراءة مجريات الأحداث، خلال عقدين تقريبًا من الزمن، في ضوء هذه الوثيقة التحليليّة، مثل أطروحة زاخرة بسياسات وإسترتيجيّات تشكّل مدار عقل العدو الأمني والأمن القومي الجاري والإستراتيجي.
بعد أن يتناول "بركوفيتش" مكوّنات التحدّي الذي يشكّله حزب الله في وجه "إسرائيل"؛ يقدّم فرضيات أساسيّة، موضحًا شروط إضعاف حزب الله عبر ضرب العلاقة بينه وبين إيران وتغيير السياسة السوريّة تجاهه وتعزيز وضع النظام اللبنانيّ ضده، عساه يفرض قيودًا تدريجيّة عليه، وإضعاف العلاقة بينه وبين الطائفة الشيعيّة بإضعاف قوّته الاقتصاديّة وضرب قدرته على دعم منظومته الاجتماعيّة في الوسط الشيعيّ، وتشجيع تشكيل تحالف دوليّ فعّال ضدّه.
تطبيق إستراتيجيّات الإضعاف في الميزان
اتخذ العدو إستراتيجيّات عدّة بغية ضرب العلاقة بين حزب الله وإيران، عبر النيل من طرفي العلاقة ومن إمكانات جَسْرِها في أشكال ومسارات متنوّعة. وهو رهانٌ لا يزال جاريًا وفقًا لأجندة معقّدة. لقد عمل العدو على ضرب كل منهما، وبلغت هذه الإستراتيجيّة ذروتها باستهدافهما مباشرة؛ فكانت الحملة العسكريّة في أيلول 2024 على حزب الله، والحرب العدوانيّة على الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة في حزيران 2025، في جزء من إستراتيجيّة واحدة عنوانها "جدليّة إضعاف أحدهما بإضعاف الآخر".
أما إستراتيجيّة تغيير السياسة السوريّة تجاه حزب الله، فقد بلغت ذروتها عندما نجح الانقلاب في 8 كانون الأوّل/ ديسمبر 2024، بعد أيّام معدودة على دخول وقف إطلاق النار بين العدو الإسرائيليّ والمقاومة في لبنان حيّز التنفيذ (الأربعاء 27 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024)، فتغيّرت بذلك المعادلة رأسًا على عقب، فكانت نهاية مفترضة لمسار بدأ في العام 2011، من "دولة" قائمة على سيادتها وطليعيّة في الصراع العربيّ-الإسرائيليّ وحليفة لإيران وحزب الله، إلى "انقلاب أميركيّ- تركيّ" جاء بحاكم يجاهر بشيء من العدائيّة المختزنة أزاء إيران وحزب الله، وينشط في اضطهاد الأقليّات داخل سوريا وتحريك الجبهة الشرقيّة الشماليّة في تهديد ناشئ ومستجد على حزب الله ولبنان، وتعويم النزعة الطائفيّة والمذهبيّة والنأي عن الصراع العربيّ-الإسرائيليّ والتزام صفر مشكلات مع "إسرائيل"، والتي ما لبثت تمارس عدوانيّتها من دون مسوّغ أو ذريعة، في دليل آخر على طبيعة "إسرائيل" العدوانيّة، ووهم الحاجة إلى ذرائع، بعدما راحت تقضم من أراضي الدولة السوريّة وسيادتها ومقدّراتها وأرصدة زمنها الممانع.
من ناحية أخرى، بلغ تطبيق إستراتيجيّة تعزيز فرض قيود النظام اللبنانيّ على حزب الله محطّته المفصليّة، مع انتخاب العماد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانيّة (الخميس 9 كانون الثاني/ يناير 2025) مُنْهِيًا فراغًا رئاسيًّا استمرَّ أكثرَ من عاميْن، بدعم عربي ودولي وبـ"رعاية أمريكية وسعوديّة فرنسية"، أي بـ "إيعاز خارجي واضح تحت ضغط نفوذه السياسيّ والاقتصاديّ والأمنيّ"، بعد تجاوز الجدل الدستوريّ وفْقًا للمادة 49 من الدستور اللبناني وحظر انتخاب موظفي الفئة الأولى في أثناء تولِّيهم لمنصبهم ولمدة سنتين بعد استقالتهم وقطْع صلتهم بوظائفهم فِعْليًّا، وضرورة مرور ستة أشهر بعد ترْك الخدمة وفقًا لقانون الانتخابات العسكري.

بعد ذلك تشكّلت الحكومة، في 8 شباط/ فبراير، بعد تكليف رئيس محكمة العدل الدوليّة السابق نواف سلام رئيسًا لوزراء لبنان، في 13 كانون الثاني/ يناير، في قرار دبّر خارجيًّا ليلة الاستشارات ويسّره رئيس الجمهوريّة في أول بوادر عهده، وتجدّدت الطريقة عينها في ذروة تطبيق الإستراتيجيّة عند القرار الصادر في 5 و7 آب/أغسطس عن العهد الجديد وحكومته، لتبدأ مندرجاته العمليّة، وتضع الوطن تحت مقصلة الرضوخ لإملاءات الأميركي والعدوان الإسرائيلي وحصريّة الاستباحة للسيادة والاستقلال والحريّة وللشرف والتضحية والوفاء.
يبقى العمل على إضعاف العلاقة بين حزب الله والطائفة الشيعيّة بإضعاف قوّته الافتصاديّة وضرب قدرته على دعم منظومته الاجتماعيّة في الوسط الشيعيّ. وكذلك تشجيع تشكيل تحالف دوليّ فعّال ضدّه؛ نقطتان مفترضتا التفعيل، بعدما جرى العمل عليهما في مراحل وأشكال عدة ونطاقات إقليميّة ومحليّة، من دون أن يبلغا حد الذروة؛ وهو ما تنذر به سيناريوهات الزمن القادم، في ظل تشابك الإستراتيجيّات وتزامن تواطؤها وتفاعلها ضمن نسق الهيمنة الأميركيّة الأعلى.
إلا أن المقاومة وروحها ولّادة المعجزات قادرة على إبطال تلك الإستراتيجيّات قاطبةً، والتوثّب إلى الأمام، لا لكونها "رؤوس هيدرا"؛ بل لأنها أرواح متسامية بالحق والحريّة، ويحرّكها الرضا الإلهيّ والكرامة الوطنيّة وإرادة البقاء.