اوراق مختارة

العقل المحاسبي يطغى على النقاش الضريبي

post-img

ماهر سلامة (صحيفة الأخبار)

يعدّ مشروع موازنة 2026 الثاني الذي يأتي بعد الاستقرار في سعر الصرف، والذي لا يترك مجالاً للشكّ في أن السلطة ليس لديها نوايا للإصلاح الضريبي.

فالموازنة يفترض أن تكون مدخلاً لهذه النوايا لأنها تُترجم في السنة الأولى من أي خطّة متوسطة الأمد، ولكنها في الواقع لم تتضمن سوى تصحيحات طفيفة لتحسين الإيرادات، ولا تعبّر عن أي تعديل جوهري ينقل المجتمع من مرحلة اللاعدالة إلى مرحلة ردم الهوّة بين فئات المجتمع.

ولولا بعض المبادرات، كتلك التي ظهرت في مؤتمر نظّمه المرصد اللبناني لحقوق المكلّفين، لما ظهر أي نقاش في السياسات الضريبية. رغم ذلك، فإن النقاشات التي دارت في المؤتمر لا تعبّر عن رغبة واسعة في الإصلاح المطلوب، وهذا ينطبق على المجتمع الدولي وممثّليه، وأبرزهم صندوق النقد الدولي الذي يقدّم أفكاراً متناقضة عن العدالة الضريبية.

الضرائب ليست مجرّد أدوات للجباية، بل هي تعكس سياسات اقتصادية واجتماعية تنتهجها السلطة. وهذا ما كان واضحاً في كلام المحامي كريم ضاهر في مؤتمر «توسيع القاعدة الضريبية ومكافحة الاقتصاد غير النظامي في لبنان – مسار حتمي للتعافي المستدام»، الذي نظّمه المرصد اللبناني لحقوق المكلّفين (ALDIC)، إذ كان الوحيد الذي قدّم طرحاً لإصلاح بنيوي في السياسات الضريبية بدلاً من الاكتفاء بإجراءات تحسين التحصيل أو دعم الامتثال التي جرى تضمينها في الموازنة أو الكلام المتناقض الذي قدّمه الممثل المقيم في لبنان لصندوق النقد الدولي فريديريكو ليما. يعتقد ضاهر أنه يجب الانتقال من نظام الضرائب المجزّأ القائم منذ عقود، إلى ضريبة دخل شخصية موحّدة تعتمد على مبدأ الإقامة الضريبية وتُحتسب على إجمالي مداخيل الفرد في الداخل والخارج، مع الاعتراف بالضرائب المدفوعة في الخارج ضمن آلية الائتمان الضريبي.

ويهدف هذا الطرح «إغلاق الثغرات التي تسمح بتفتيت الدخل والتهرّب من المعدّلات الأعلى»، إلى جانب كونه يمثّل جزءاً أساسياً من العدالة الضريبية. وتتحقق هذه الرؤية عبر إصدار قانون ضريبي موحّد يجمع النصوص المتناثرة، فضلاً عن إصلاح ضريبتَي الإرث والهبات لما تتضمنانه من فجوات تسهّل نقل الثروة من دون تحمل كلفتها الضريبية.

كذلك شدّد ضاهر على ضرورة توسيع قاعدة الضريبة على القيمة المضافة عبر مراجعة الإعفاءات غير المبرّرة، وعلى ربط الإصلاح التشريعي بتطوير الإدارة الضريبية ورقمنتها. هذه المقاربة الوحيدة التي حاولت أن تُعيد تعريف فلسفة النظام الضريبي على أساس العدالة والكفاءة، بدل الاكتفاء بجباية أكثر من منظومة لم تتغيّر.

في المقابل، لم تحمل كلمة ممثل صندوق النقد الدولي في لبنان، فريدريكو ليما، تحوّلاً نوعياً في مقاربة الإصلاح الضريبي بقدر ما ارتكزت على العقل المحاسبي السائد في لبنان وإن كانا يختلفان في الأهداف. يعتقد ليما أن هناك ضرورة لتعزيز الإيرادات وضبط الإنفاق ضمن الإطار التقليدي المألوف للصندوق في السنوات الأخيرة.

وأشار إلى أن الارتفاع المتوقّع في الإيرادات إلى نحو ستة مليارات دولار في موازنة 2026، ناشئ من تعديلات سعر الصرف الجمركي وقرارات ظرفية، لا من إعادة بناء فعليّة لقاعدة التكليف.

ورغم تطرقه إلى ضرورة تحديث الإدارة الضريبية، وإلى موضوع الضريبة الموحدة على الدخل، إلا أن تركيزه الأكبر انصبّ على المردود المالي كهدف بحدّ ذاته.

وهذا كان واضحاً في حديثه عن «الضغوطات الإنفاقية» المتمثّلة بأكلاف الأجور، وإعادة الإعمار والفوائد على القروض. وليما لا يلحظ أن الموازنة الحالية، كما الموازنات السابقة لها، تُعد موازنات متقشّفة لا إنفاق استثمارياً فيها ولا تصحيحاً للأجور. وهكذا، ظهر أن توصيات الصندوق بقيت محصورة في الإطار المحاسبي الضيّق. فهو من جهة يأسف لأن ضريبة المحروقات سقطت، بينما ينتقد أساس الرسوم على الاستهلاك.

عملياً، لم يكن هناك أي حديث عن ضرائب استثنائية أو نوعية، في الوضع الاستثنائي الذي يمرّ به الاقتصاد والمالية العامّة منذ انهيار قيمة العملة عام 2019. وهذا النوع من الضرائب ليس غريباً في الأزمات، إذ إن الكثير من الدول التي مرّت بأزمات قامت به حتى لو مؤقتاً بهدف إعادة الاستقرار المالي. فالعمل على النظام الضريبي المعتاد، يمسّ بالفئات المهمّشة فقط، في حين أن الأزمة انعكست على مداخيل الفئات الاجتماعية المختلفة، ما عدا الفئات المحظية (الـ1% الأغنى في المجتمع)، وهي الفئة التي تستطيع أن تتحمّل الضرائب فعلياً.

في باقي المؤتمر، كان التركيز على تحسين الجباية، بدلاً من تحسين الهيكلية الضريبية. فقد أكّد المشاركون أن لبنان يفقد ما بين 40% و60% من اقتصاده لمصلحة الاقتصاد الموازي، وهو ما يُسهم في انخفاض الجباية. وأن الانهيار لم يكن مالياً فقط، بل أخلاقياً أيضاً، بعدما بات الامتثال الضريبي فعلاً شبه تطوعي تمارسه قلّة «بلا مقابل».

وفي إطار تحسين الجباية طرح وزير الدولة لشؤون الإصلاح الإداري فادي مكي في مداخلته، كسر النمط التقليدي في مخاطبة المكلّفين، محملاً جزءاً من الأزمة لعطبٍ في العلاقة بين الدولة والمواطن، لا في القانون وحده. ودعا إلى مقاربة تقوم على فهم السلوك، وعلى إعادة الاعتبار للانتماء والواجب المشترك، بدلاً من الإلحاح على خطاب التهديد والملاحقة الذي أثبت عجزه.

مدير الواردات في وزارة المال، لؤي الحاج شحادة، نقل النقاش من النظري إلى الواقعي، فأضاء على ضعف بنية الإدارة الضريبية نفسها، وتركيزه هنا كان على إدارة التحصيل وليس إدارة البنية الضريبية. إذ قال إن الإدارة الضريبية ما تزال تعمل بأنظمة لا تواكب الحد الأدنى من حجم التهرّب والتحايل المنتشر. تحدّث عن ظاهرة التهرب الذي تمارسه الشركات الكبرى بمساعدة شبكات قانونية ومحاسبية قادرة على اللعب داخل النصوص نفسها، بينما تُحصر الملاحقة غالباً بصغار المكلفين.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد