سارة هنداوي (صحيفة الديار)
غرفة الطمأنينة أم مصنع الوصفات؟
في غرفةٍ بيضاء تُباع فيها الطمأنينة
في تلك الغرفة الهادئة التي يُفترض أن تشفي الروح، يسود صمت غريب.
الطبيب لا يسأل كثيرًا، المريض لا يُكمل جملته، والوصفة تُكتب قبل أن تُقال القصة.
هكذا صار العلاج النفسي في زمن السرعة: دواء بدل الإصغاء، وموعدٌ قصير بثمنٍ طويل الأمد.
بين المريض الباحث عن راحةٍ حقيقية، والطبيب المحاصر بعجلة السوق، تاهت العلاقة الإنسانية التي بُني عليها الطب النفسي أساسًا.
هناك من يدخل الغرفة وهو مثقل بكل صمت لم يُسمع، وبكل دمعة لم تُرَ، وبكل خوف يختبئ منذ زمن بعيد.
يخرج كما لو أن روحه انقسمت بين الأوراق والوصفات، صوته اختفى، لكن صدى الجرح بقي يحفر في داخله.
الأطفال والكبار يأتون باحثين عن لحظة أمان، عن عين تستمع، عن قلب يفهم… لكن يجدون حبرًا ودواءً يخفف الصرخة، لا الألم، ويترك فراغًا أعمق من الصمت نفسه.
الغرفة، البيضاء، لا تحضن إلا الصمت، وتظل الشفاه ترتعش، والأعين تبحث عن أي أثر للإنصات، لكن لا شيء سوى صدى الجروح التي لا تُرى.
دواء لكل شعور: الصرخة التي لا تُسمع
الاكتئاب؟ حبة زرقاء.
القلق؟ كبسولة صغيرة.
الأرق؟ وصفة أخرى.
لكن الصمت… الصمت لا يُباع، ولا يُشترى.
الجرعات تخنق الصوت الداخلي، لكنها لا تمس الروح.
كل صرخة محبوسة، كل دمعة لم تُرَ، كل خوف يختبئ في الليل الطويل… يظل حيًا، يزداد عمقًا، يصرخ بلا صوت.
الدواء يغطي الألم، لكنه لا يمس قلبك، ولا يلمس وجعك الذي يعرفه وحدك.
هنا، في الغرفة البيضاء، تتحول الروح إلى صمت، وتصبح كل الجرعات مجرد غطاء خفيف على حريق داخلي مستمر.
صدى الألم
حسين، شاب في الثالثة والعشرين، يقول:
"لم أعد أعرف كيف أفرّغ شعوري من القلق، كل ما أراه في الغرفة البيضاء هو حبة دواء لا تلمس قلبي."
ليلى، 29 عامًا، تضيف:
"كنت أحكي نصف قصة حياتي فقط، والباقي اعتبره الطبيب أعراضًا. شعرت أن شيئًا عميقًا بداخلي يضيع بين الدقائق."
هذه الأصوات الصغيرة تكشف الواقع: المرض النفسي ليس مجرد أعراض تُكتب على ورقة، بل قصص حياة تُخدَّر أحيانًا بدل أن تُفهم.
من الإصغاء إلى الوصفة: نهاية الحوار الحقيقي
لم يعد الطبيب النفسي يجلس ليستمع بتمعن، بل يختصر الجلسة في دقائق، يطلق تشخيصًا جاهزًا، ويكتب دواءً سريع المفعول.
المريض يظن أنه يتعافى، بينما يُخدَّر مؤقتًا. ساعات العلاج تتحول إلى عداد رقمي، والوقت يسرق التفاصيل، ويترك الروح معلقة بين الأوراق والعبارات السطحية.
كل قصة حياة تتحول إلى قائمة أعراض، كل ألم يُختصر برمز دوائي. هنا تظهر الفجوة الغريبة: روح المريض تضيع، بينما العدادات الرقمية والوقت المحدود يتحكم في العلاج، وكأن الإنسانية أصبحت مجرد رقم يُحسب.
شركات تُسوّق الطمأنينة: لعبة الأرقام على حساب الأرواح
مؤتمرات، رعايات، عينات مجانية، إعلانات مقنّعة…
أطباء أحيانًا يُدفعون لتجربة دواء جديد على حساب ثقة المرضى.
النتيجة: الدواء يصبح نجمًا، والطبيب واجهته، والمريض ضحيته.
في هذا السوق، تُباع الطمأنينة كما تُباع أي سلعة أخرى، والإنسانية تتلاشى بين العروض والتقارير التسويقية.
تشخيص جاهز، علاقة مفقودة: الطب النفسي بين التجارة والوجع
في لبنان، كما في دول كثيرة، يشكو مرضى من التشخيص السريع وغياب المتابعة.
المرض النفسي، الذي يُفترض أن يكون رحلة من الفهم والعلاج، أصبح سباقًا مع الوقت، مع أرقام المرضى، ومع عقود شركات الأدوية.
ليلى قالت: "كنت أحكي نصف قصة حياتي فقط، والباقي اعتبره الطبيب أعراضًا."
كل قصة تختصر، وكل ألم يُحشر في خانة جاهزة، وتضيع العلاقة الإنسانية كما تضيع رائحة الورق بين صفحات التقارير.
دراسة صادرة عن جمعية الصحة النفسية في لبنان 2024،
ارتفع معدل الاكتئاب والقلق بنسبة 32% مقارنةً بالسنوات السابقة، مع زيادة ملحوظة في الاعتماد على الأدوية بدل جلسات الإصغاء.
معدل الجلسة النفسيّة في لبنان اليوم لا يتجاوز 20 دقيقة في غالبية الحالات، بينما يحتاج المريض العميق الروح إلى وقت ثلاثة أضعاف على الأقل.
صوت الطبيب الشريف: العلاج يبدأ بالاستماع
يقول الطبيب النفسي د. سامي ضاهر في حديثٍ له
"أخطر ما نعيشه اليوم هو غياب الحوار الحقيقي بين الطبيب والمريض.
الأدوية مفيدة، لكنها جزء من العلاج لا كلّه.
المرض النفسي لا يُشفى بالوصفات الجاهزة بل بالفهم، بالوقت، وبالإنصات."
الأثر النفسي والاجتماعي: الثمن الخفي للتشخيص السريع
غياب الإصغاء يجعل الفرد أكثر عرضة للاكتئاب، القلق، والسلوكيات الانعزالية.
تتأثر الأسرة والمجتمع، وينخفض الإنتاج، وتزداد الفجوة بين المريض والنظام الصحي.
الأرق، التوتر المستمر، فقدان الثقة بالنفس… كل هذه العواقب اليومية تظهر أثر العلاج التجاري على الواقع النفسي والاجتماعي.
المرض النفسي يتحوّل من تجربة علاجية شافية إلى عبء ثقيل على المجتمع بأكمله، حيث تُختصر القصص الإنسانية إلى أرقام وإحصاءات على الأوراق.
عودة الإنسان: العلاج ليس مجرد دواء
ما يحتاجه الطب النفسي اليوم ليس مزيدًا من الأدوية، بل جلسات إصغاء حقيقية.
إلى علاقة تعيد المريض إلى ذاته، لا إلى علبة دواء.
العلاج النفسي ليس تجارة، بل حوار بين روحين: واحدة تُصارح، وأخرى تُنصت.
وكل جلسة من هذا النوع تعيد الروح إلى حيث تنتمي، تعيد الدفء إلى صمت الغرفة البيضاء، وتزرع شعورًا بأن الفهم ممكن قبل أن يأتي الدواء.
صرخة تحذيرية وإنسانية
على الأطباء والجهات الرقابية أن يدركوا أن فقدان العلاقة الإنسانية في العلاج النفسي ليس خطأ صغيرًا.
إنه خطر على حياة المرضى وعلى المجتمع بأكمله.
الدواء وحده لا يكفي، والإصغاء ليس رفاهية، بل ضرورة.
الصمت في الغرفة البيضاء لا يضر المرضى فقط… بل يهددنا جميعًا.
كم مريض آخر سيُخدَّر بدل أن يُفهم؟ وكم منا سيقف ليحاسب النظام قبل أن يُخدَّر المريض التالي؟
في النهاية، الإنسانية تبدأ بكلمة، بجملة استماع، بحقيقة أن كل روح لها قصة تستحق أن تُروى بالكامل، لا أن تُختصر في كبسولة أو وصفة جاهزة.
دعوة للأمل والحلول
يمكن للمجتمع والجمعيات الصحية والأطباء إعادة الأمل، عبر:
جلسات إصغاء حقيقية مدتها كافية لكل حالة.
برامج دعم نفسي ومتابعة فردية.
تدريب الأطباء على التواصل العميق قبل وصف الدواء.
الإنسانية تبدأ بخطوة صغيرة: الاستماع لكل روح قبل أي وصفة.
تم تغيير الأسماء لحماية الهوية.