اوراق مختارة

بيير كونيسا وآلية الهيمنة في "هوليووار: هوليوود، سلاح دعاية جماعية"

post-img

سلام الكواكبي/ العربي الجديد

على الشاشة الكبيرة، لا شيء بريء. الضوء والظل يتناوبان لتقسيم العالم إلى معسكرَين متقابلَين: الخير والشر، البطل والعدو، النور والظلام. منذ فجر السرد الإنساني، سعت الأساطير والحكايات إلى تأطير هذه الثنائية التي تشكّل جوهر الوعي الجمعي للبشر. ولكن، في العصر الحديث، لم تعد الأسطورة تُروى في المعابد أو في الساحات، بل تُصنع في أروقة هوليوود. هناك، حيث تتقاطع المتعة بالبروباغندا، والخيال بالهيمنة الثقافية.

في كتابه "هوليووار: هوليوود، سلاح دعاية جماعية"، يسلّط الباحث الفرنسي بيير كونيسا الضوء على هذا الوجه المظلم من السينما الأميركية، كاشفًا عن بنيتها الأيديولوجية العميقة ودورها في تشكيل التصوّرات العالمية عن الخير والشر. فالسينما، كما يرى المؤلف، ليست مجرد وسيلة للترفيه أو الفن، بل إنّها أداة حرب رمزية، إذ إنها جزء لا يتجزأ من منظومة النفوذ الأميركي، أو ما يُعرف اليوم بالقوة الناعمة.

يبدأ كونيسا تحليله من فرضية بسيطة لكنها حاسمة: أنّ الصورة تسبق الفكرة، وأن الفيلم قادر على بناء قناعةٍ سياسيةٍ أسرع وأعمق من أي خطابٍ رسمي. ففي زمنٍ تُتداول فيه الصور بسرعات تفوق انتقال الأفكار، أصبحت هوليوود مركزًا لإنتاج المعاني، لا مجرد صناعةٍ للقصص. هي، بحسب قوله، المختبر الأكبر للخيال السياسي الأميركي، إذ يُعاد رسم خرائط العدو والحليف، ويجري التلاعب بالوجدان العالمي في صمتٍ وتسلية.

يستعرض المؤلف تاريخ السينما الأميركية منذ بداياتها، ليبيّن أن ارتباطها بالسياسة الخارجية للولايات المتحدة ليس وليد اللحظة، بل جزء من بنيتها التكوينية. فمنذ أفلام رعاة البقر الأولى، مرورًا بفترة الحربَين العالميتَين، ووصولًا إلى أفلام الإرهاب المعاصر، كانت هوليوود تُعبّر، بوعيٍ أو دون وعي، عن الأجندة الأميركية في العالم. فالفيلم ليس مرآة للواقع بقدر ما هو أداة لإنتاجه.

أصبحت هوليوود مركزًا لإنتاج المعاني، لا مجرد صناعةٍ للقصص

في القسم الأول من الكتاب، (منشورات روبرت لافونت، 2018)، يركّز كونيسا على ما يسميه "فن بناء العدو"، فالسينما الأميركية، كما يوضّح، لم تتوقف عن اختراع أعداء جدد يبرّرون النزعات التوسعية أو التدخلات السياسية والعسكرية لبلاد العم سام. هؤلاء "الأشرار" يتبدّلون بتبدّل السياق التاريخي، لكن آليات شيطنتهم تبقى واحدة: التجسيد، والتبسيط، والاختزال.

في البدايات، كان الأسود هو الهدف. في أفلام أوائل القرن العشرين، صُوّر الرجل الأسود بوصفه بدائيًا، وغريزيًا، وعنيفًا، وغير قادر على التمدّن. صورةٌ غذّت العنصرية البنيوية في المجتمع الأميركي وأعادت إنتاجها على مستوى عالمي. ثم جاء الهندي الأحمر، العدو الداخلي الذي يُفترض القضاء عليه لتوسيع "الأرض الموعودة" وبناء الأمّة الأميركية الحديثة. في هذه المرحلة، كان "القتل التطهيري" يُقدَّم بوصفه فعلًا بطوليًا، باسم الحضارة والتقدم. لاحقًا، ظهر الخطر الأصفر، ممثلًا في الصينيين واليابانيين، بوصفهم جنسًا غامضًا، متآمرًا، وغير مفهوم. ثم انتقل الخطر إلى الجنوب، إذ أصبح اللاتيني أو الأسمر رمزًا للحدود المهدَّدة، والتهريب، والفوضى.

في منتصف القرن العشرين، مع اندلاع الحرب الباردة، وُلد "العدو الأبيض"، في صورة النازي أو الشيوعي المتخفّي. وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، لم تترك هوليوود فراغًا: فسرعان ما ابتكرت عدوًا بديلًا، وهو المسلم العربي أو الإيراني، الذي أصبح وجه الشرّ الجديد في الألفية الثالثة. بهذا التتابع، يرسم كونيسا خريطة ديموغرافيا العدو في الخيال الأميركي، مشيرًا إلى أن كل فئة من هؤلاء "الأشرار" لم تكن سوى تجسيد لقلقٍ سياسي داخلي أو لطموحٍ خارجي أميركي.

في القسم الثاني، ينتقل المؤلف إلى تفكيك آليات اشتغال هذه الدعاية السينمائية. يشير إلى أن هوليوود تعمل وفق استراتيجية مزدوجة، فهي من جهةٍ تروّج لأفلامٍ سطحية تجارية، لأنها تصل إلى الجمهور الأوسع وتؤثر في الوجدان الجمعي دون مقاومة فكرية؛ ومن جهة أخرى تتجنّب المواضيع التي تمسّ التناقضات الأميركية نفسها، مثل عنف الشرطة، أو حروبها في الخارج، أو جرائم إطلاق النار الجماعي.

الرقابة ليست دائمًا صريحة. إنها رقابة ناعمة، تمارسها آليات السوق نفسها. الأفلام التي تخدم السردية الوطنية تحظى بالتمويل والتوزيع، بينما تُهمّش الأعمال التي تشكك في الاستثناء الأميركي. وهكذا، تتحول الصناعة السينمائية إلى جهاز أيديولوجي متكامل، يصوغ صورة أميركا بوصفها بطلًا منقذًا دائمًا، ويحجب وجهها الإمبراطوري خلف لقطات البطولات الفردية.

يشير كونيسا أيضًا إلى أن العلاقة بين هوليوود ومؤسّسات الدولة ليست نظرية. فالبنتاغون ووكالة الاستخبارات المركزية (CIA) يقدمان الدعم اللوجستي لكثير من الإنتاجات السينمائية مقابل تعديلات "طفيفة" في السيناريوهات، وهي تعديلات تضمن أن يظهر الجيش الأميركي كما عناصر الاستخبارات دومًا بمظهر أخلاقي وإنساني. في المقابل، تُستخدم تلك الأفلام وسائلَ دعائية لتجنيد الشباب أو لتبرير التدخلات الخارجية.

الكتاب تشريح دقيق لآليات الهيمنة الثقافية في زمن الصورة

يُخصّص المؤلف الجزء الأخير من الكتاب لما يسميه "الشيطنة البوشو-ترامبية"، أي الخطاب السينمائي الذي ساد بعد أحداث 11 سبتمبر / أيلول 2001، حين تحوّل "الإرهابي المسلم" إلى تجسيدٍ مطلقٍ للشرّ. في هذه المرحلة، انصهر في العدو الواحد العرب، والإيرانيون، والروس، والكوريون الشماليون، والفنزويليون، وحتّى الشيوعيون القدامى، في مزيجٍ هجين من الأعداء الذين يهددون "العالم الحر". وبحسب كونيسا، لم يكن هذا التحوّل عفويًا، بل استمرارًا منطقيًا لتقليدٍ أميركي طويل في صناعة الخوف، فكما احتاجت أميركا في الحرب الباردة إلى الشيوعي لتبرير سياساتها، فهي اليوم تحتاج إلى "الإرهابي" لتبرير وجودها العسكري حول العالم. السينما هنا، لا تعكس الواقع، بل تخلقه وتغذّيه، بحيث تصبح "الحرب ضد الإرهاب" مشهدًا دائمًا، يسهل تكراره وتصديره عالميًا.

في تأملٍ لافت، يقارن كونيسا بين أسطورة راعي البقر القديمة، ذلك الرجل الذي يحمي الحدود ويعيد فرض النظام، وبين صورة الجندي الأميركي المعاصر، الذي يتدخل في الدول "الفاشلة" لإعادة "الديمقراطية والنظام". ويبقى الجوهر واحدًا، وهو أن أميركا هي الخير المطلق، والعالم الخارجي هو الفوضى التي تحتاج إلى خلاص. بهذا المعنى، تصبح السينما الأميركية امتدادًا للأسطورة التأسيسية للولايات المتحدة نفسها، تلك التي تقوم على فكرة المصير المتجلّي، أي رسالة الأمة المختارة لإنقاذ البشرية. هذه الفكرة، المترجمة بصريًا في آلاف الأفلام، تجعل أميركا دومًا في مركز السرد، والآخر، أيًا كان، يمكث على هامشه، إما بوصفه تهديدًا أو منقذًا محتملًا بفضلها.

يختم كونيسا بتحليلٍ عميقٍ لطبيعة الصورة النمطية، مستندًا إلى مفهوم رولان بارت في كتابه أسطوريات (1957).  فالقالب النمطي، كما يقول بارت، ليس مجرد تبسيطٍ للواقع، بل عملية أيديولوجية تحوّل ما هو تاريخي وثقافي إلى ما يبدو "طبيعيًا" و"بديهيًا". أي يكاد المشاهد ألّا يرى تمثيلًا، بل يعتقد أنه يرى الحقيقة.

هكذا، تبيع هوليوود للعالم ليس أفلامًا فحسب، بل رؤية للعالم، إذ تُهيمن القيم الأميركية، مثل الحرية الفردية، التفوق التقني، البطولة الأخلاقية، بوصفها معايير كونية. بينما تُمحى بقية الثقافات، أو يُعاد تعريفها عبر عدسةٍ أميركية. وفي النتيجة، عالمٌ يتغذّى على الخيال الأميركي حتى وهو يرفضه، وأذهانٌ تشاهد أميركا وهي تخلّص البشرية، بينما لا تنتبه إلى أنها في الواقع تكتب تاريخها بدلًا عنها.

الكتاب ليس هجومًا عاطفيًا على السينما الأميركية، بل تشريح دقيق لآليات الهيمنة الثقافية في زمن الصورة. فهوليوود، كما يصوّرها كونيسا، ليست مجرد صناعة للأفلام، بل مؤسّسة لإنتاج المعنى والذاكرة والهوية.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد