اوراق مختارة

الشمال تحت الخطر... نشاط شركات الترابة يهدّد البيئة والمناخ المحلي

post-img

شانتال عاصي (صحيفة الديار)

تواجه منطقة الشمال تحديا بيئيا خطِرا، يتمثل في نشاط شركات الترابة، التي تُعرف بأنها تقوم باستخراج الأحجار والمواد الصخرية من الأراضي الجبلية والوديان، لإنتاج الترابة والرمل للاستخدامات الإنشائية.

وعلى الرغم من الأهمية الاقتصادية الجزئية لهذه الشركات، فإن تأثيراتها البيئية والصحية في المجتمع المحلي والمناطق الطبيعية، أصبحت مصدر قلق بالغ، حيث تتسبب بتدمير الغطاء النباتي، وتلوث الهواء والمياه، وتعريض حياة الإنسان والحيوان للخطر.

إقتلاع الأشجار وتدهور الغطاء النباتي

واحدة من أبرز الظواهر السلبية الناتجة من نشاط شركات الترابة، هي اقتلاع الأشجار وإزالة الغطاء النباتي الطبيعي على نطاق واسع، خصوصا في المناطق الجبلية والغابات المتنوعة شمال لبنان. هذه الممارسات لا تؤدي فقط إلى فقدان التنوع البيولوجي الذي يزخر به شمال لبنان، بل تؤثر أيضا بشكل مباشر في وظائف النظام البيئي، حيث تعمل الأشجار والنباتات على تثبيت التربة ومنع انجرافها، كما تساهم في تخزين المياه والمحافظة على الرطوبة في التربة.

مع إزالة الغابات، تصبح التربة مكشوفة للرياح والأمطار الغزيرة، مما يؤدي إلى تدهورها وفقدان خصوبتها، وزيادة مخاطر الانهيارات الأرضية والسيول المفاجئة، التي قد تهدد القرى والمزارع المجاورة. كما أن فقدان الغطاء النباتي يقلل من قدرة المنطقة على امتصاص المياه وتخزينها، ما يؤدي إلى جفاف الأنهار الموسمية وتراجع مستوى المياه الجوفية، وبالتالي التأثير في المحاصيل الزراعية ومصادر المياه للشرب.

في مناطق مثل عكار والضنية، تم توثيق إزالة مساحات شاسعة من الغابات الجبلية، ما أسهم في تراجع ملحوظ في الطيور والحيوانات البرية، التي كانت تعتمد على هذه المواطن الطبيعية، إلى جانب انخفاض تنوع النباتات الطبية والغذائية. هذه التغيرات تجعل النظام البيئي أكثر هشاشة، حيث يصبح عرضة للصدمات البيئية مثل الجفاف المتكرر، حرائق الغابات، والفيضانات المفاجئة.

علاوة على ذلك، يؤدي تدمير الغابات إلى زيادة الانبعاثات الكربونية، إذ تعمل الأشجار عادة على امتصاص ثاني أكسيد الكربون من الجو، وبالتالي يساهم اقتلاعها في تفاقم تغير المناخ المحلي وارتفاع درجات الحرارة، بالإضافة إلى فقدان التوازن المناخي المحلي الذي يحافظ على معدل هطل الأمطار ودرجات الحرارة المعتدلة. هذه التأثيرات المشتركة تُظهر أن اقتلاع الأشجار ليس مجرد قضية بيئية سطحية، بل تهديد شامل لمقومات الحياة الطبيعية والبشرية في شمال لبنان.

تلوث الهواء وأثره في الصحة

إضافة إلى تدمير الغطاء النباتي، تتسبب شركات الترابة في تلوث هوائي شديد ومستمر، نتيجة الغبار المتطاير أثناء عمليات الحفر والنقل والتكسير، التي تنتج كميات هائلة من الجسيمات الدقيقة (PM2.5 وPM10) المحمولة في الهواء لمسافات طويلة. هذه الجسيمات لا تؤثر في البيئة فقط، بل تمثل خطرا صحيا مباشرا على السكان المحليين، خصوصا أولئك الذين يعيشون بالقرب من مواقع الشركات.

يمكن أن تؤدي هذه الجسيمات الدقيقة إلى مشاكل تنفسية مزمنة مثل الربو والتهابات الشعب الهوائية والرئة، بالإضافة إلى تفاقم حالات الحساسية وأمراض الجهاز التنفسي العلوي. الأطفال وكبار السن يمثلون الفئات الأكثر عرضة لهذه المخاطر، حيث إن تعرضهم الطويل للجسيمات الدقيقة قد يؤدي إلى تأخر النمو التنفسي عند الأطفال وزيادة معدلات الوفيات لدى كبار السن.

ولا يقتصر الخطر على الأضرار التنفسية فحسب، إذ إن الغبار المتطاير يمكن أن يحمل معادن ثقيلة ومواد كيميائية تستخدم في عمليات التكسير، مثل الرصاص والزئبق والكادميوم، التي تترسب لاحقًا في التربة والمياه السطحية والجوفية. هذا التراكم يزيد من السمية البيئية ويشكل تهديدا مزدوجا على صحة الإنسان والحياة البرية، بما في ذلك الحيوانات والطيور التي تعتمد على المياه والغذاء المحلي.

تلوث المياه وخطره على الإنسان والحيوان

لا يقتصر تأثير شركات الترابة على الهواء فحسب، بل يمتد ليشمل المياه السطحية والجوفية، مما يشكل تهديدا كبيرا للصحة العامة والنظم البيئية في الشمال. تؤدي العمليات الصناعية المستمرة وإزالة الغابات إلى انجراف التراب والصخور والحطام نحو الأنهار والجداول، ما يزيد من عكارة المياه ويقلل من شفافيتها وجودتها، وبالتالي يعيق استخدامها للشرب والزراعة والصناعات المحلية.

إضافة إلى ذلك، غالبا ما تحتوي المياه الملوثة على معادن ثقيلة مثل الرصاص والزئبق والكادميوم، إلى جانب مواد كيميائية متبقية من عمليات التكسير والحفر. هذه الملوثات يمكن أن تتراكم في الأنهار والينابيع، وتشكل خطرًا مباشرًا على الأسماك والكائنات المائية الأخرى، ما يؤدي إلى اضطرابات كبيرة في السلسلة الغذائية وتقليل التنوع البيولوجي. الحيوانات البرية التي تعتمد على هذه المصادر المائية تتعرض بدورها لمخاطر صحية جسيمة، بما في ذلك التسمم وفقدان القدرة على التكاثر والوفاة في الحالات الأكثر شدة.

تلوث المياه له أيضا انعكاسات صحية مباشرة على الإنسان، إذ يمكن أن يسبب التعرض الطويل لمياه ملوثة أمراضًا مزمنة مثل التسمم بالمعادن الثقيلة، واضطرابات في الكلى والكبد، إضافة إلى زيادة احتمالات الإصابة بالسرطان وبعض أمراض الجهاز الهضمي. وفي الوقت نفسه، يؤدي انخفاض جودة المياه إلى تدهور الإنتاج الزراعي، ما يؤثر في الأمن الغذائي المحلي ويزيد من هشاشة المجتمعات الريفية.

تداعيات على المناخ المحلي

من المظاهر الخطرة الأخرى لنشاط شركات الترابة، هو تأثيرها العميق في المناخ المحلي في مناطق شمال لبنان. يؤدي فقدان الغطاء النباتي نتيجة إزالة الغابات واقتلاع الأشجار إلى زيادة درجات الحرارة المحلية بشكل ملموس، حيث تختفي الظلال الطبيعية وتقف النباتات عن تبريد الهواء عبر عملية النتح. كما يقل معدل الرطوبة في التربة والهواء، مما يجعل المنطقة أكثر عرضة للجفاف وتراجع قدرة النباتات على النمو.

إضافة إلى ذلك، تسهم الجسيمات المحمولة في الهواء والغبار الناتج من عمليات الحفر والنقل في تغيير نمط تساقط الأمطار، إذ يمكن أن تعمل هذه الجسيمات كأحواض تكاثف غير طبيعية، مما يؤدي إلى هطلات مطرية متقطعة أو مفاجئة وغير منتظمة. هذه التغيرات المناخية المحلية تؤثر بشكل مباشر في خصوبة التربة، وتقلل من قدرة الأراضي الزراعية على دعم المحاصيل، ما يؤدي إلى تراجع الإنتاج الزراعي وزيادة انعدام الأمن الغذائي في المجتمعات المحلية.

كما يؤدي فقدان الغطاء النباتي وتلوث الهواء إلى زيادة هشاشة النظام البيئي، إذ يصبح أقل قدرة على امتصاص المياه والسيطرة على الانهيارات الأرضية والسيول المفاجئة، ويزداد تعرض المنطقة لتغيرات مناخية حادة. وفي حالات طويلة المدى، يمكن أن يسهم هذا التدهور في تفاقم ظواهر التصحر وزيادة معدلات تآكل التربة، ما يحرم المنطقة من مقوماتها الطبيعية ويضعف قدرتها على التكيف مع الظروف المناخية المستقبلية.

توضح هذه التداعيات أن تأثير شركات الترابة ليس محصورا في تدمير البيئة المباشر، بل يمتد إلى إحداث تغييرات مناخية محلية قد يكون لها أثر طويل المدى في صحة الإنسان، والحياة البرية، والقدرة الإنتاجية للمنطقة، مما يجعل الحاجة إلى إجراءات رقابية وحماية عاجلة أمراً لا يمكن تأجيله.

أخيرا، يشكل نشاط شركات الترابة في شمال لبنان تهديدا بيئيا وصحيا خطيرا للتربة والغابات والمياه والهواء، ويتطلب تدخلا عاجلًا من الجهات الحكومية والمنظمات البيئية عبر قوانين صارمة، إعادة التشجير، ومراقبة جودة البيئة لضمان توازن بين التنمية وحماية صحة الإنسان والطبيعة. 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد