اوراق مختارة

لا مُستقبل رقمي للبنان ما لم يتمّ إصلاح قطاع الإتصالات

post-img

جاسم عجاقة (صحيفة الديار)

تُثبت دالّة إنتاج كوب- دوغلاس (Cobb-Douglas production function) أن التكنولوجيا هي المحرك الأساسي للنمو الاقتصادي طويل الأجل، وذلك بتمثيلها كعامل خارجي معزز للإنتاجية، عبر توسيع حدود إمكان الإنتاج. وتنصّ هذه الدالة على أن التكنولوجيا تؤدي دور المضاعف للإنتاج، بمعنى أنه حتى ولو بقي رأس المال واليد العاملة على المستوى نفسه، فإن مجرّد تطور التكنولوجيا، يزيد من الناتج المحلّي الإجمالي.

من هذا المُنطلق، نرى أن دالة كوب- دوغلاس تُحدد التكنولوجيا كعامل يخفف القيود المتأصلة، التي يفرضها تناقص العوائد على رأس المال والعمالة، مما يجعلها المحرك الأساسي طويل الأجل، لزيادة الثروة وتحسين مستويات المعيشة.

بناءً على ما تقدّم، عمدت الكثير من الدول إلى إدخال التكنولوجيا إلى آليات الإنتاج، وأخذ البعض الآخر (مثل الولايات المتحدة الأميركية) يستثمر بكثرة لامتلاك تكنولوجيا تسمح بدفع النمو الاقتصادي، ويكون لها فوائد اجتماعية ترفع من مستوى الشعوب. وبالتالي نرى أن البيانات هي وقود الاقتصادات الحديثة، وامتلاك بنية تحتية تسمح بنقل ومعالجة هذه البيانات هو أمرٌ أساسي.

في لبنان، لا تزال البنية التحتية الرقمية متأخرة كثيرا نسبة إلى نظيراتها في بلدان أخرى، ونسبة إلى ما يجب أن تكون عليه. ويعود السبب في ذلك إلى سوء الإدارة والتدخلات السياسية في هذا القطاع. الاتصالات في لبنان بطيئة وغير مستقرّة وكلفتها مرتفعة جدا، لتشكّل بالتالي عائقا أساسيا أمام احتمالات التعافي الاقتصادي. النتيجة؟ خسائر هائلة تُقدّر بالمليارات سنويا من فرص اقتصادية ضائعة!

ضريبة مخفية

في علم الاقتصاد، تُعتبر التكلفة الاقتصادية لضعف الاتصالات «ضريبة مخفية»، وهو أمرٌ غير مقبول في ظل الأنظمة الديموقراطية. هذه الضريبة على اقتصاد يعيش أزمة كارثية، تزيد من خسارة ناتجه المحلّي الإجمالي، لا بل أكثر من ذلك تضرب إمكان الاستفادة من اقتصاد المعرفة، ومن التجارة الإلكترونية للخروج من النفق المظلم:

- أولاً إقتصاد المعرفة: لا يُخفى على أحد، أن أهمّ ميزة في لبنان هي رأسماله البشري، الذي يتميّز بنسبة تعليم عالية وإلمام كبير بالتكنولوجيا، قادر على تصدير الخدمات الرقمية العالية الجودة إلى الخارج، كالبرمجة والاستشارات وغيرها، وهو ما يُعتبر دخلا إضافيا للعملات الصعبة التي يحتاج إليها لبنان. إلا أن ضعف الاتصالات، يُعيق الشركات الناشئة وشركات التكنولوجيا من استخدام هذه القدرات عن بُعد، وتصديرها عبر الحوسبة السحابية (Cloud Computing Services) أو حتى المشاركة في مؤتمرات عن بُعد، أو تلبية متطلبات الـ bandwidth للزبائن.

وبالتالي نرى أن هناك ردة فعل مزدوجة من قبل الشركات (الاستثمار في الاتصالات، وهو ما يُفقدها التنافسية نظرا للكلفة) ومن قبل الشباب (الذي يطمح إلى الهجرة). وبالتالي يمكن الجزم أن غياب القدرة على المنافسة في القطاع الرقمي، يكلف الاقتصاد أرقاما كبيرة (أنظر إلى الرسم البياني).

- ثانياً التجارة والخدمات الإلكترونية: لعل المثال الكبير الصارخ على فقدان لبنان قدرة تقديم الخدمات والتجارة على الإنترنت، هي شركة Shein المختصة في تجارة الملابس على المنصة الإلكترونية. فقد أدّت فعّالية هذه الشركة الموجود على الإنترنت، إلى منافسة أكبر ماركات الملابس في العالم، ويكفي النظر إلى عدد الشركات التي أقفلت في فرنسا وحتى أميركا نتيجة هذه المنافسة، لمعرفة مدى قدرة التجارة الإلكترونية.

وبغياب شبكة اتصالات موثوق بها في لبنان، يخسر العديد من الشركات الناشئة الصغيرة والمتوسطة الحجم، الكثير من الفرص الاقتصادية من بيع للسلع والخدمات عبر الإنترنت. حتى إن مشروع الحكومة الإلكترونية في لبنان مهدّد بالتقويض، نتيجة ضعف هذه الشبكة، وهو ما يعني عدم القدرة على الانتقال الجذري إلى الخدمات الإلكترونية.

- ثالثاً تآكل مؤسسي وهدر المال العام: مما لا شك فيه أن سيطرة الدولة على قطاع الاتصالات، مع ما رافق ذلك من سوء إدارة مالية (تقرير ديوان المحاسبة)، شملت مليارات الدولارات على مشاريع لم تُبصر النور، كلها أدّت إلى تردّي الخدمات، وارتفاع الكلفة بشكلٍ كبير، وهو ما يعني أن الدولة تجني مداخيل لخدمة دون المستوى.

إصلاحات ضرورية

من الواضح أن السيطرة السياسية على هذا القطاع، كانت ولا تزال العائق الأول أمام تطور هذا القطاع. وبالتالي لا يمكن الحديث فقط عن حل تقني، بل يجب رفع اليد السياسية عن هذا القطاع، من خلال إجراء إصلاحات جذرية، تسمح بتفكيك السيطرة السياسية المتجذرة في هذا القطاع، وترقى به إلى مستويات عالمية تُعيد لبنان إلى خارطة الدول المنافسة في مجال اقتصاد المعرفة:

- أولاً : إعطاء هيئة الاتصالات الناظمة الصلاحيات الكاملة، بحسب قانون الاتصالات رقم 431/2002، وتحرير القطاع وتنظيمه، وجعل هذه الهيئة هيئة مستقلة قولا وفعلا. ومن بين صلاحيات هذه الهيئة: إصدار التراخيص وإدارة الطيف الترددي، وهو ما يعني فصل عمل الهيئة عن عمل وزارة الاتصالات، التي يقتصر دورها على وضع الخطط الاستراتيجية. أيضا يجب على الهيئة احترام قانون الشراء العام في كل المناقصات والمشتريات العامة.

- ثانياً : الشِرْكة مع القطاع الخاص: أظهرت أزمة العام 2019 ، أن الدولة اللبنانية لم تعد قادرة على تمويل قطاع تكنولوجي مُتطوّر بفعّالية، وبالتالي هناك ضرورة لإدخال القطاع الخاص في تمويل وإدارة هذا القطاع. وتشمل هذه الشركة: الخصّخصة المدارة (وليس الخصخصة المباشرة)، إصدار رخصة ثالثة للاتصالات الجوالة، وفتح الباب أمام الشركات الخاصة لتشغيل شبكة الألياف الضوئية الوطنية والاستثمار فيها.

- ثالثاً : تعزيز المرونة والحقوق الرقمية: أيضا من الضروري التحوّط ضد الصدمات المستقبلية، من خلال تكرار الشبكة (Network Redundancy) ، وزيادة المصادر (كابلات بحرية جديدة مثلًا CADMOS-2 أو Starlink)، وإنشاء المزيد من نقاط تبادل الإنترنت. أيضا يجب إعطاء الحق في الوصول إلى الإنترنت كحق من الحقوق الأساسية للمواطن، مع أسعار شفافة ومرتبطة بمؤشرات الأداء الرئيسية للجودة والسرعة.

في المحصلة، أثبتت الدولة فشلها في إدارة قطاع الاتصالات كما في قطاعات أخرى، وأظهرت أن وضع الاتصالات في لبنان هو نموذج لأزمة الحوكمة في لبنان. وإذا كان عدم الالتزام بتطبيق القوانين، هو أحد تداعيات غياب الحوكمة الرشيدة في المرحلة المنصرمة، إلا أن وعود العهد الجديد يجب أن تُطبق على قطاع الاتصالات، الذي هو قطاع عالي القيمة، وقد يدرّ عائدات هائلة على الدولة في ظل فرضية إدارة فعّالة.

بدون إصلاحات جذرية في هذا القطاع، لن يكون للبنان أي مستقبل رقمي!

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد