اوراق مختارة

بكاسين ورئة الجنوب ... كيف تهدّد الحرائق أكبر غابة صنوبر في المنطقة؟

post-img

شانتال عاصي (صحيفة الديار)

ولكأن ما يعانيه جنوب لبنان من الغارات الإسرائيلية المتكررة لا يكفي، فقد شهدت البلاد منذ يوم الاثنين الماضي اندلاع حرائق واسعة، امتدت لتبلغ غابة بكاسين في قضاء جزين، والتي تُعدّ أكبر غابة صنوبر في المنطقة. وتُثير هذه الحرائق قلقا بالغا لدى الخبراء البيئيين والمجتمع المحلي، نظرا إلى الأهمية الحيوية التي تمثلها الغابة في صون التنوع البيولوجي، والحفاظ على التوازن البيئي في جنوب لبنان.

أهمية غابة بكاسين على صعيد البيئة

تُشكّل غابة بكاسين موطنا حيويا لمجموعة واسعة من الأنواع النباتية والحيوانية النادرة، وتُعتبر رئة طبيعية لا غنى عنها للجنوب اللبناني. تسهم أشجار الصنوبر المنتشرة فيها في تثبيت التربة ومنع انجرافها، وهو ما يقلل من مخاطر التصحر، ويحد من تدهور الأراضي الزراعية المحيطة. كما تؤدي هذه الغابة دورا رئيسيا في امتصاص كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون، مما يساعد على تقليل آثار التلوث وتحسين جودة الهواء للإنسان والحياة البرية على حد سواء.

إضافة إلى ذلك، تُساهم بكاسين في تنظيم المناخ المحلي، عبر توفير الرطوبة وتقليل درجات الحرارة المرتفعة صيفا، ما يدعم استقرار النظم البيئية المحيطة. كما تُعتبر الغابة عنصرا أساسيا في الحفاظ على التنوع البيولوجي، إذ توفر ملاذًا آمنًا للعديد من الطيور والحيوانات التي تواجه تهديدات متزايدة بفعل التوسع العمراني والنشاط البشري. ومن هذا المنطلق، فإن حماية غابة بكاسين ليست مجرد مسألة محلية، بل تمثل خطوة مهمة نحو استدامة الموارد الطبيعية في لبنان وضمان توازن البيئة للأجيال القادمة.

التهديد البيئي نتيجة الحرائق

تمثل الحرائق الحالية تهديدا بالغ الخطورة للنظام البيئي المتنوع والمعقد في غابة بكاسين، إذ يمكن أن تؤدي إلى تدمير مساحات واسعة من أشجار الصنوبر القديمة، والتي تحتاج الى عقود طويلة للنمو والتجدد. ويترتب على ذلك فقدان تدريجي للغطاء النباتي الذي يساهم في تثبيت التربة ومنع الانجراف، مما يزيد من احتمالية التصحر وتدهور الأراضي المجاورة.

كما أن الحياة البرية في الغابة، بما في ذلك الطيور والحيوانات الصغيرة والمتوسطة الحجم، تواجه خطر فقدان مساكنها الطبيعية ومصادر غذائها الأساسية، ما قد يؤدي إلى نزوحها أو انخفاض أعدادها بشكل ملحوظ. ويشير خبراء البيئة إلى أن تأثير هذه الحرائق لا يقتصر على الكائنات الحية فحسب، بل يمتد أيضًا إلى النظام البيئي بأكمله، حيث قد يؤدي فقدان الغطاء النباتي إلى اضطراب التوازن بين العناصر الطبيعية، وتأثيرات سلبية في المياه والتربة والمناخ المحلي.

وحذر العلماء من أن استمرار هذه الحرائق دون تدخل عاجل وفعّال، قد يؤدي إلى اختلال بيئي طويل الأمد، قد يستغرق التعافي منه سنوات عديدة، ويؤثر بشكل مباشر في استدامة الموارد الطبيعية في جنوب لبنان وفي صحة الإنسان والحياة البرية في المنطقة.

دور غابة بكاسين في مواجهة تغير المناخ

تؤدي غابة بكاسين دورا حيويا في مكافحة تغير المناخ على مستوى الجنوب والمنطقة ككل. فالغطاء الكثيف لأشجار الصنوبر يعمل كـ "مصاصة طبيعية" لثاني أكسيد الكربون، حيث تمتص الأشجار كميات كبيرة من هذا الغاز المسبب للاحتباس الحراري، ما يساهم في الحد من ارتفاع درجات الحرارة على المستوى المحلي وتقليل أثر النشاط البشري الضار بالبيئة.

إضافة إلى ذلك، تساعد الغابة على تنظيم دورة المياه الطبيعية في المنطقة، فهي تقلل من سرعة جريان مياه الأمطار، وتخفف من خطر الفيضانات والانزلاقات الأرضية، بفضل شبكة جذورها التي تثبت التربة وتمنع انجرافها. هذا الأمر لا يحمي فقط البيئة المحيطة، بل يحافظ أيضًا على الأراضي الزراعية والمجتمعات السكنية القريبة من الغابة، ويقلل من الأضرار الاقتصادية المحتملة الناتجة من الكوارث الطبيعية.

من ناحية أخرى، تُعد غابة بكاسين منطقة مهمة لتنظيم المناخ المحلي، إذ تعمل الأشجار على توفير الظل والرطوبة، مما يخفف من ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف، ويساهم في خلق بيئة أكثر استقرارا للكائنات الحية التي تعتمد عليها. كل هذه الوظائف تجعل من الغابة عنصرا استراتيجيا في مواجهة آثار تغير المناخ، ليس فقط على المستوى البيئي المباشر، بل على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي أيضا، مؤكدةً على ضرورة حمايتها والحفاظ عليها كجزء من الجهود الوطنية لمواجهة التحديات المناخية.

الحاجة إلى حماية الغابات واستراتيجيات الاستدامة

تؤكد الجهات البيئية والمجتمع المدني على أهمية تعزيز جهود الوقاية والسيطرة على الحرائق، من خلال توفير الموارد البشرية والمعدات اللازمة، بما في ذلك فرق الدفاع المدني المتخصصة وصهاريج المياه وآليات الرش الحديثة، لضمان القدرة على مواجهة أي اندلاع سريع للنيران. كما يشدد الخبراء على ضرورة وضع استراتيجيات شاملة لإدارة الغابات تتضمن إنشاء مناطق عازلة تفصل الغابات عن التجمعات السكنية والمزارع، وتركيب أنظمة مراقبة مبكرة تعتمد على الطائرات المسيرة والكاميرات الحرارية للكشف المبكر عن أي حريق محتمل.

إلى جانب ذلك، تعد التوعية المجتمعية عن مخاطر الحرائق وطرق الوقاية منها، جزءا أساسيا من هذه الاستراتيجيات، خصوصا في مواسم الجفاف أو عند اشتداد حركة الرياح التي قد تسرع انتشار النيران. وتشمل برامج التوعية تدريب السكان المحليين على الإسعافات الأولية، وكيفية الإبلاغ عن الحرائق بسرعة، وإجراءات حماية المنازل والمحاصيل، ما يعزز قدرة المجتمع على التفاعل الفوري وتقليل الخسائر.

إن حماية الغابات لا تمثل مجرد خيار بيئي، بل هي ضرورة ملحة لضمان استدامة التنوع البيولوجي والحفاظ على الموارد الطبيعية للأجيال القادمة. فالاستثمار في سياسات حماية الغابات والبنية التحتية للوقاية من الحرائق يعزز من قدرة لبنان على مواجهة التحديات المناخية ويحافظ على دوره كمورد بيئي واستراتيجي مهم في المنطقة، ويحمي الحياة البرية والمجتمعات المحلية من الآثار المدمرة للنيران.

إلى ذلك، توضح الأزمة الحالية مدى هشاشة النظم البيئية أمام الكوارث الطبيعية والبشرية، وتبرز أهمية وضع سياسات مستدامة لإدارة الغابات وحماية التنوع البيولوجي. إن إنقاذ غابة بكاسين لا يعني فقط الحفاظ على الأشجار والحيوانات، بل يضمن استمرارية الفوائد البيئية التي توفرها الغابة للإنسان والمجتمع، بما في ذلك الهواء النظيف، واستقرار التربة، والقدرة على مواجهة التغير المناخي. 

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد