حسين كوراني
أظهرت نتائج الانتخابات العراقية تقاربًا بين القوى الفائزة، بشكل لا يسمح لأي طرف بتشكيل الحكومة الجديدة من دون التوافق الذي جرت عليه العادة، بعد العام 2003، تاريخ سقوط نظام الرئيس الأسبق صدّام حسين. بينما عززت فصائل الحشد الشعبي حضورها، داخل البرلمان الجديد، جاءت الخسارة مدويّة للقوى المدنية والليبرالية أو ما يسمّى بـ"ثورة تشرين 2019" وأبرزها الحزب الشيوعي.
حصدت قوى الإطار التنسيقي الشيعي 138 مقعدًا برلمانيًا، من أصل 325، إذ فاز تحالف "الإعمار والتنمية" برئاسة رئيس الوزراء محمد شيّاع السوداني بالمرتبة الأولى، بواقع 45 مقعدًا، يليه ائتلاف "دولة القانون" بزعامة نوري المالكي بـ 30 مقعدًا، وكتلة "صادقون" بزعامة قيس الخزعلي بـ 26 مقعدًا، في ما نالت منظمة "بدر" بزعامة هادي العامري 19 مقعدًا، و"قوى الدولة" بزعامة عمار الحكيم 18 مقعدًا.
تقدّم ائتلاف السوداني، في عدد من المحافظات، بينما حافظ ائتلاف المالكي على موقعه، كما عزّز حزب "تقدّم" بزعامة محمد الحلبوسي حضوره في مناطق مختلفة بـ 36 نائبًا، بينما واصل حزب KDP العراقي بقيادة مسعود البارزاني تصدّره في محافظات الشمال، لتبدأ مفاوضات تشكيل الحكومة الجديدة.
لكن مع هذه النتائج؛ يبدو أن المشهد السياسي القادم سيكون معقّدًا، إذ إن الأجنحة السياسية لفصائل الحشد الشعبي حصلت على 62 مقعدًا، وبالإضافة إلى كتلتي "صادقون" و"بدر"، حصدت كُتل الحشد الباقية من "حقوق" الجناح السياسي لـ"كتائب حزب الله" 6 مقاعد، و"سند" الجناح السياسي لـ"جند الإمام" 6 مقاعد، وتحالف "خدمات" بقيادة شبل الزيدي زعيم فصيل "الإمام علي" 5 مقاعد. كما أن كتلة "دولة القانون" هي محسوبة على فصائل المقاومة العراقية، وبالتالي تصبح كُتل الحشد الشعبي مجتمعة 92 نائبًا، وهذا ما سيجعل من الصعب على السوداني أن يترشح لرئاسة الحكومة ثانية من دون تنسق مع فصائل الحشد.
كما تكتسب الانتخابات النيابية هذه الدورة أهمية كبرى كونها أتت، في ظل تطوّرات إقليمية عصفت بالمنطقة، ابتداء من حربي غزّة ولبنان ومساندة حركة أنصار الله في اليمن وفصائل المقاومة في العراق لحركة حماس في قطاع غزّة، وصولًا إلى مهاجمة الكيان الصهيوني والولايات المتحدة لإيران. وهذا بالطبع أثّر في توجه الناخبين العراقيين المتعاطفين مع الشعبين الفلسطيني والإيراني. إذ من ناحية عزّز حضور نواب فصائل المقاومة في البرلمان، ومن ناحية ثانية أدى إلى تراجع حلفاء واشنطن والسعودية ممن يعرفون بـ "ثورة تشرين 2019" التي اندلعت في إثرها المظاهرات في العاصمة بغداد ومحافظات جنوب العراق بحجة تردّي الأوضاع الاقتصادية وانتشار الفساد المالي والإداري والبطالة، والمطالبة بعدم التدخل الإيراني، وأحرقوا المتظاهرون حينها القنصلية الإيرانية في النجف وقتلوا عددًا من عناصر الحشد الشعبي.
للمفارقة، لم يكن من باب الصدفة أبدًا أن "ثورة تشرين" العراقية، تزامنت مع "ثورة 17 تشرين" 2019 في لبنان وكانت مطالبها هي ذاتها، وكان قد سبقها مظاهرات في السودان أطاحت بنظام عمر البشير. وبالطبع المّحرك لهذه الاحتجاجات هدفه ليس الإصلاحات؛ إنما إسقاط أنظمة تلك الدول التي ترفض السير في ركب اتفاقات "إبراهام" "الإسرائيلية" التطبيعية.
إذًا، يبدو أن انسحاب زعيم "التيار الصدري" مقتدى الصدر من الحياة السياسية ومقاطعته لهذه الانتخابات مكّن ائتلاف السوداني من حصد هذه المقاعد، علمًا أن هذا الأخير كان قد تعّهد بعدم تشكيل كتلة نيابية باسمه والخروج من "الإطار التنسيقي" الذي أوصله إلى رئاسة الحكومة في العام 2022 وعارضه الصدر. حينها ما تسبب باحتدام الصراع بين "الإطار" و"التحالف الثلاثي" الذي كان يضمّ "التيار الصدري"؛ وأدى إلى انسحاب الأخير من الحكومة، حيث كان يحظى بأعلى تمثيل في البرلمان (73 نائبًا).
نتائج الانتخابات
وفقًا لإعلان المفوضية العراقية بلغت نسبة المشاركة الإجمالية في الانتخابات 56.11%. وبلغ عدد المشاركين في التصويت العام والخاص 12,009,453 ناخبًا من أصل 21,404,291 يحق لهم التصويت.
حصلت الائتلافات والتحالفات الشيعيّة مجتمعة على 197 مقعداً، متجاوزة بذلك العدد الذي حصلت عليه في الانتخابات السابقة (185 مقعداً). هذا يعني أنّ المكوّن مجتمعاً قادر على التحكّم بمسارات انتخاب الرئاسات الثلاث، ويحتاج فقط إلى التحالف مع قوى من خارج المكوّن للوصول إلى 220 مقعداً (ثلثَي البرلمان)، وهو الشرط اللازم لانتخاب رئيس الجمهورية. أمّا انتخاب رئيس البرلمان ورئيس الوزراء فيحتاج فقط إلى الأغلبيّة المطلقة (النصف زائداً واحداً).
فيما جاءت النتيجة التي حقّقها تحالف "الإنماء والإعمار" بقيادة السوداني بحصوله على 45 مقعداً في عموم العراق، أدنى من أقلّ التقديرات التي رجّحت حصوله على مقاعد تراوح بين 55 إلى 60 مقعداً. كان أبرز مؤشّرات هذا التراجع في نتائج بغداد، حيث كان من المرجّح أن يحصل على نحو 20 مقعداً، لكنّه حصد 15 مقعداً فقط، مقابل ثمانية مقاعد لائتلاف دولة القانون بقيادة نوري المالكي. على الرغم من فوز هذا التحالف بالمركز الأوّل على مستوى العراق، سيواجه عقبات معقّدة في نسج تحالفاته لضمان عودة السوداني إلى رئاسة الحكومة لولاية جديدة.
ونالت القوائم السنية على 77 مقعدًا، في حين حصلت القوائم الكردية على 56 مقعدًا، والمرشحون الإيزيديون على مقعد واحد.
والقوى السنية توزعت مقاعدها بين حزب "تقدّم" بزعامة الحلبوسي 36 نائبًا، وتحالف "العزم" 15 مقعدًا، وتحالف "السيادة" 9 مقاعد، وتحالف "حسم" 8 مقاعد، ما يعكس تنوع التمثيل داخل البيت السني. وكُرديًا، حصد الحزب الديمقراطي الكردستاني على 27 مقعدًا، يليه الاتحاد الوطني الكردستاني 18 مقعدًا.
خريطة التحالفات المحتملة ومستقبل الحكم
أكد مختار الموسوي، في تصريح صحفي، وهو قيادي في منظمة بدر المنضوية بـ"الإطار التنسيقي" إن الإطار بصدد إعلان تشكيل الكتلة النيابية الأكبر "بشكل مباشر" بعد التصديق على نتائج الانتخابات، كما لم يستبعد أن يتم الأمر بعيدًا عن ائتلاف "الإعمار والتنمية" الذي يقوده السوداني، مضيفًا أن: "قوائم الإطار التنسيقي حصلت على أصوات ومقاعد تمكّنها من المضي بالكتلة الأكبر، والتي يقع على عاتقها تسمية رئيس الحكومة الجديدة، وليس بالضرورة أن يكون السوداني".
كما قال الخبير بالشأن العراقي أحمد النعيمي إن: "النتائج ستدفع الإطار التنسيقي مجددًا لتقديم مرشح واحد"، لكنّه أشار إلى: "صعوبة بالغة تنتظر السوداني، الساعي إلى ولاية ثانية، في ظل رفض المالكي والخزعلي المعلن لهذا الخيار".
بدوره، يصف الباحث بالشأن السياسي العراقي أسعد الجميلي الحضور اللافت لأجنحة فصائل الحشد الشعبي في البرلمان القادم بأنها: "سُتعقّد مهمّة أي حكومة تتشكّل أمام ملف حصر السلاح بيد الدولة، أو السيطرة على موضوع سلاحها"، مضيفًا أن: "نتائج الانتخابات أظهرت انحسار أصوات المستقلين والمدنيين، وحضورًا واسعًا وكبيرًا للقوى الدينية وقوى الفصائل المسلحة (المقاومة)، وهذا ما يجعل من القول إن الانتخابات لم تأتِ بأي تغيير غير صحيح".
بحسب الدستور العراقي؛ فإن مرحلة اختيار رئيس للوزراء ليشكّل الحكومة، تبدأ بعد انتخاب برلمان جديد، يسمي رئيسًا للجمهورية، والأخير يكلّف مرشح "الكتلة النيابية الأكبر عددًا" بمهام منصب رئيس الوزراء.
في المحصلة، من غير المتوقع أن تغيّر الانتخابات جذريًا في بنية السلطة العراقية، لكنّها ستحدد موازين القوى بين التيارات الشيعية والكتل الكردية والسنية؛ ففصائل المقاومة، على الرغم من الضغوط الأميركية الهائلة، عزّزت حضورها برلمانيًا، وما تزال تمتلك نفوذًا سياسيًا واقتصاديًا يصعب تجاوزه.
ومع استمرار الانقسام الداخلي وضعف الثقة الشعبية، تبدو مهمّة الحكومة المقبلة في تحقيق التوازن الداخلي بين أكبر لاعبين في الساحة العراقية، واشنطن وطهران مهمّة شبه مستحيلة. والسؤال الكبير المطروح الآن: هو هل سيتمكّن السوداني من الاستمرار في النهج الذي سار عليه، أم تأخذه سَكرة الفوز الانتخابي إلى خيارات قد لا تكون مناسبة وقابلة للتنفيذ الهادئ في العراق، من نوع نزع سلاح فصائل المقاومة؟ أم أنّ المستقبل سيأتي بتطوّرات أكبر من تلك التي سبقت، بما يتجاوز قدرته على الإدارة؟