اوراق مختارة

الكنيسة المارونية ترعى «مشروع تهجير» لأبنائها: «سوليدير» جديدة في الديمان!

post-img

رضا صوايا (صحيفة الأخبار)

عشية زيارة البابا لاوون الرابع عشر للبنان نهاية هذا الشهر، في أول زيارة خارجية له تحمل رسالة دعم لمسيحيّي الشرق وحثّهم على الثبات في أرضهم، انفجرت مشكلة على «الأرض» بين الكنيسة المارونية وأهالي بلدة الديمان، مركز المقر الصيفي للبطريرك الماروني! المشكلة التي تعود إلى قرون مضت، عادت إلى الواجهة اليوم من بوابة مشروع تطرحه الكنيسة على الأهالي، ويخشى هؤلاء من أن يؤدّي في نهاية المطاف إلى تهجيرهم من أرضهم.

أهالي الديمان لا يملكون أراضيهم، بل هم «شركاء الدير» في ملكيّتها. ويوضح المؤرّخ الدكتور عصام خليفة أن «الأوقاف البطريركية قديمة العهد وتعود إلى ما قبل القرنين الخامس والسادس عشر، وقد اكتسبتها الكنيسة من مصادر عدّة. فمن ناحية، تخلّى الأهالي عن أراضيهم للكنيسة مقابل تعليم أولادهم أو وفاءً لنذور، أو هرباً من دفع ضريبة «الميري» في زمن السلطنة العثمانية، على أمل أن يستعيدوها لاحقاً. وتعزّزت محفظة الكنيسة العقارية في زمن الأمراء الشهابيين، خصوصاً الأمير يوسف الذي منحها أراضيَ شاسعة لتعزيز مكانتها».

بذلك، تمتلك البطريركية المارونية الغالبية العظمى من أراضي الديمان، وتخضع علاقتها مع السكان لصيغة تُعرف بعقود «شراكة». ويوضح ابن الديمان أستاذ الفلسفة سمير غصن أن «البيوت والأراضي في الديمان هي تاريخياً ملك السكان، وورثناها عن آبائنا وأجدادنا. لكن، بسبب ظروف تاريحية معيّنة، اضطر الأهالي إلى التخلي عن أراضيهم لمصلحة الكنيسة، ودخلنا معها منذ ذلك الحين في شراكة».

ويقرّ غصن بأن ليست لدى الأهالي وثائق أو مستندات تثبت ملكيتهم للعقارات قبل التخلّي عنها، ولكن، «يُقال في الذاكرة الشعبية إن الحجج التي كان يملكها أجدادنا انتُزعت منهم»، في إشارة إلى ما يردّده كثيرون من أهالي الديمان عن استخدام الكنيسة سلطتها على الأهالي للاستيلاء على المستندات والوثائق مطلع النصف الثاني من القرن العشرين، ومسحت الأراضي باسمها.

مشروع عقاري؟

بعد الاستقلال بدأت العلاقة بين الطرفين تشهد عدم استقرار مع محاولات من الكنيسة فضّ الشراكة وإن بشكل أُحادي، وهو ما حصل، بحسب غصن، «في زمن «البطريرك المعوشي، عندما جرت محاولة لإخراجنا من أرضنا، واستحصلت الكنيسة على قرار قضائي لهدم بيوت، وحضر الدرك للتنفيذ، إلا أن تدخّل الفاتيكان منع تنفيذ القرار»، مشيراً إلى أنه «في كل مرة يتأزّم الوضع بيننا وبينهم، نلجأ إلى الكرسي الرسولي الذي يقف إلى جانبنا».

كذلك جرت محاولات لإيجاد حلّ للمشكلة في زمن البطريرك الراحل نصرالله صفير لم تنته إلى نتيجة. وانفجرت المشكلة أخيراً، وفقاً لغصن، «بعد أن وضعت اللجنة الاقتصادية التابعة للبطريركية المارونية حلاً من جانب واحد لفضّ الشراكة يرتكز على بنديْن: تمليك كل ساكن بيته مع مساحة تُراوِح بين 1100 متر و1400 حوله، لقاء بدل رمزي. في المقابل، يَسقُط حقه كلياً في شراكة الأراضي التي ورثها عن أجداده». واللافت أن العرض بالتمليك يشمل ساكن المنزل أو من يشغله وليس إخوته أو أخواته أو بقية الفروع!

خطورة الطرح كما يراه قسم كبير من الأهالي يكمن في أنه سيؤدّي إلى تخلّيهم عن حوالى 87% من مساحة بلدتهم لمصلحة البطريركية التي تسعى لتمليك أشخاص من خارج الديمان هذه المساحات، وفق عقود إيجار، كصيغة للتهرّب من القيود التي فرضها الفاتيكان والتي يمنع بموجبها الكنيسة من بيع أراضيها.

العقدة الفعليّة بحسب المعترضين ترتكز على هذه النقطة تحديداً، في ظل تخوّفهم من أن تتحول الديمان إلى «مشروع عقاري شبيه بسوليدير يؤدّي في نهاية المطاف إلى تحويل أهاليها إلى أقلية، مقابل موجة من المستثمرين القادمين الذين سيستولون تدريجياً على القرية».

التنفيذ بدأ

وتشير الوقائع إلى أن قلق الأهالي ليس مبنياً على توهّمات. فقد تمّ توثيق مجموعة من عقود الإيجار أبرمتها البطريركية مع أشخاص من خارج الديمان، أحدها في العقار الرقم 36، «الذي يضمّ كرماً ورثه والدي عن جدّي وورثته عن والدي. لاحظت أن المساحة مسحت هذا العقار. تمّ اقتلاع الكرم. وبدأوا التمهيد لبناء بيت من دون أن يطلبوا رأيي أو يعرضوا عليّ تعويضاً. تقدّمت باعتراض خطّي، فلم ألقَ جواباً من أحد»، على ما يقول غصن، لافتاً إلى أنه تواصل مع الشخص الذي ينوي بناء منزل في العقار، «فأبلغني بأنه يبني بموجب عقد إيجار.

وحين سألته عن الضمانة بأن يجدّد عقد الإيجار أجاب بأنّه مُنح ضمانة شفهية كونه يبني بيتاً، وأن المؤجّرين أكّدوا له أن الكنيسة لا تطرد الناس من بيوتهم». وأشار إلى «أننا وثّقنا حتى الآن 3 حالات تأجير لأشخاص من خارج الديمان. وقد تكون هناك حالات أخرى لم نعلم بها».
برأي خليفة، «كلا الطرفين، الكنيسة والأهالي، مقسومان إلى قسمين: قسم متشدّد وقسم متساهِل يسعى للتسوية. إلا أن المشكلة الكبرى تكمن في عدم تطبيق الكنيسة مقرّرات المجمع الماروني الأنطاكي لعام 2006 في هذا المجال».

ويدعو النص الثالث والعشرون للمجمع البطريركي الماروني الذي يتناول «الكنيسة المارونية والأرض»، الموارنة إلى أن «يحبوا الأرض التي عاش عليها الآباء والأجداد»، منبّهاً إلى أن «هذا الإرث مُعرّض اليوم لمزيد من الذوبان والتناقص... وهذا ما يعرّض الهوية المارونية للخلل وفقدان التمايز التاريخي والروحي»، مشدّداً على أنه «إذا ربح الماروني العالم كلّه وخسر الأرض التي تكوّنت فيها هويته التاريخية فيكون قد خسر نفسه».

مقابل ما ينص عليه نص المجمع البطريركي، تعرض الكنيسة على أهالي الديمان، وفق المعترضين، «معاملة تجارية بحتة، من دون أي امتيازات أو تفضيل. صحيح أن العرض يتيح لابن الديمان استغلال الأرض مجدّداً بموجب عقود إيجار، ولكن وفق سعر السوق، وإذا لم يقبل، يمكن لأيّ ماروني من أيّ مكان أن يأتي ويستأجر ويبني منزلاً في الديمان».

الرئيس السابق لنادي الاتحاد الديماني، سمعان صالح، اعتبر أن «فتح باب التمليك لغير الديمانيين يفقد الديمان هويتها الأصلية... وهذا النمط إذا اتّبعته البطريركية المارونية يهدّد الكيان. فالديمان لن تعود في هذه الحالة الديمان التي نعرفها، ما يعدم الحوافز لعودة المنتشرين من أهالي قريتنا إلى أرض آبائهم وأجدادهم».

وبما أن «الشراكة» ترتكز، في جانب أساسي، على اهتمام الأهالي بالأرض، فإن المشروع في حال السير به قد تنتج منه مخاطر اجتماعية واقتصادية وزراعية عدة، من أبرزها فقدان دور أهالي الديمان كشركاء في الأرض، وبالتالي غياب رعايتهم لها وما يسبّب ذلك من تراجع الإنتاج الزراعي. كما تبرز مخاوف من طرد صغار المزارعين وتحويلهم إلى عمال موسميين تحت رحمة ملّاكين كبار من خارج البلدة.

وإلى جانب المخاطر المرتبطة بفقدان الهوية والأرض، تبرز مشاكل مرتبطة بالبنية التحتية. فالديمان قرية صغيرة في قضاء بشري، لا يوجد فيها حتى بلدية. ويلفت غصن إلى أن «شبكة الري في الديمان مصدرها الينابيع، وتصلنا المياه منها بشكل بدائي، عبر خزان كبير تتوزّع منه المياه عبر شبكة على المنازل. وغالباً ما نشتري المياه بسبب الشحّ خلال فصل الصيف. وبالتالي، كيف ستوزّع المياه في حال حصول استثمارات عقارية كبرى في البلدة وهي أساساً لا تكفينا؟».

حلّ أو كسب للوقت؟

بعد تعثّر عقد اجتماع بين لجنة المتابعة المُكلّفة من قبل الأهالي، والمجلس الاقتصادي الرعوي في الديمان، عقد الطرفان لقاءً مساء الإثنين الماضي تحت الضغط الإعلامي والشعبي الذي رافق القضية، وصدر بيان أمس عن لجنة المتابعة تطرّق إلى أبرز ما تمّ التوافق عليه. البيان - الذي كان لافتاً أنه صدر عن طرف واحد وليس عن الطرفين ولم يتضمن توقيع أيّ من أعضاء المجلس الاقتصادي - أكّد أن العمل جارٍ على «فرز بيوت الديمان وتمليكها بسعر رمزي»، من دون أي إشارة إلى المقصود بالرمزي.

أمّا بخصوص معضلة التأجير التي خلقت مخاوف لدى الديمانيين فاكتفى البيان بالحديث عن «العمل على إيجاد حل فوري لعملية التأجير التي حصلت أخيراً... بروح التعاون والألفة». ولم تقتصر العموميات على هذا البند، إذ أشار البيان إلى «إيجاد صيغة قانونية تحفظ حقوق المزارعين وورثتهم» من دون أي تفصيل إضافي. ولفت إلى أنه تمّ الاتفاق على «إصدار خارطة تفصيلية لبيوت وأراضي الديمان تحدّد أسماء أصحاب الحقوق وإعطاء الديمانيين مهلة زمنية لتسوية أوضاع الأراضي غير المزروعة».

اللافت أن البيان ناقض نفسه في الختام، إذ اعتبر أن «ما جرى تداوله أخيراً في بعض وسائل الإعلام حول بيع الأراضي في الديمان عارٍ عن الصحة»، علماً أن الكلام لم يكن عن بيع إنما عن تأجير للأراضي وهو ما أكّده البيان نفسه.
وتبرز مخاوف بعض الديمانيين من العموميات في البيان، وإن اتّسم بالإيجابية في جوهره، إذ إن المشكلة بين الطرفين تعود لعقود طويلة، ولطالما كانت هنالك معضلات ومسائل شائكة حالت دون حلّ القضية جذرياً، فيما كان الأجدى الخروج بمُقرّرات عملية واضحة، لا تحتمل الاجتهاد.

«الأخبار» أرادت الاستماع إلى وجهة نظر البطريركية المارونية، لكنّ عضو المجلس الاقتصادي الرعوي في الديمان المحامي ميلاد جبرايل فضّل عدم التحدّث عن الموضوع، فيما تعذّر الوصول إلى النائب البطريركي على منطقتَي الجبّة وإهدن المطران جوزيف نفاع.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد