شانتال عاصي (صحيفة الديار)
تشهد غابات كسروان اليوم واحدة من أخطر أزماتها البيئية في العقود الأخيرة، حيث يتراجع الغطاء الحرجي بشكل مقلق تحت وطأة التغير المناخي وارتفاع درجات الحرارة وندرة الأمطار والشتاء. هذه الظواهر لا تهدد فقط جمال الغابات وتنوعها البيولوجي، بل تعرضها أيضًا لمخاطر الجفاف والحرائق وتدهور التربة، ما يجعل مستقبلها على المحك. إن استمرار هذا التدهور قد يكون له آثار كارثية في البيئة المحلية والمجتمع، مما يستدعي تحركًا عاجلًا لحماية هذه الثروة الطبيعية الحيوية قبل فوات الأوان.
التغير المناخي وتدهور الغطاء الحرجي في لبنان
يشهد العالم تأثيرات حادة للتغير المناخي، المتمثلة في ارتفاع درجات الحرارة، انخفاض معدلات التساقطات، تمدد التصحر، الاحتباس الحراري، واحترار الغلاف الجوي. تؤدي هذه التغيرات إلى اضطرابات كبيرة في حياة الكائنات الحية، حيث لا تتحمل العديد من النباتات ارتفاع درجات الحرارة، مما يؤدي إلى تغيّر موائلها الطبيعية وزيادة انتشار الحرائق وفترات الجفاف الطويلة. كما أصبحت أيام الشتاء أقصر، وانخفضت كمية الثلوج المتساقطة بشكل ملحوظ، حيث أصبح تساقط الثلوج مقتصرًا على المناطق المرتفعة فوق 1500 متر، بدلًا من المناطق المنخفضة التي كانت تشهدها سابقًا.
يؤدي هذا التدهور إلى تدمير ممنهج لأعداد كبيرة من الغابات، وقد شهد لبنان ودول الجوار هذا العام خسائر كبيرة في الثروة الحرجية، حيث جفّت نحو 30% من الأشجار، بحسب الخبير البيئي البروفيسور "ضومط كامل"، وتم امتداد اليباس من الجذور إلى الأغصان، ما يجعل استعادة هذه الأشجار صعبة جدا حتى في حال ريّها لاحقًا.
النشاط البشري وتسريع التغير المناخي
ساهم النشاط البشري بشكل مباشر في تسريع وتيرة التغير المناخي، من خلال استهلاك كميات هائلة من الوقود الأحفوري، مثل النفط والفحم والغاز الطبيعي، ما أدى إلى زيادة انبعاثات الغازات الدفيئة التي تحبس الحرارة في الغلاف الجوي. كما أن الاستخدام المفرط للمياه والموارد الطبيعية المتجددة وغير المتجددة، مثل قطع الأشجار والتوسع العمراني غير المنضبط، زاد من الضغوط على النظم البيئية الحساسة. هذه الممارسات أدت إلى تدهور التربة، وانخفاض مستويات المياه الجوفية، وزيادة التصحر، مما يجعل الغابات أكثر عرضة للجفاف والحرائق.
وشدد "كامل" على تأثر غابات كسروان المعمرة بشكل مباشر بهذه التغيرات، خصوصًا غابات السنديان وأنواع الأشجار المحلية الأخرى التي تعد رموزًا للهوية البيئية في المنطقة. فقد شهدت مساحات شاسعة من جبال كسروان تدميرًا شبه كامل للأشجار نتيجة ارتفاع درجات الحرارة ونقص الأمطار، ما أدى إلى موت الكثير من الأشجار من جذورها وحتى أغصانها، الأمر الذي يهدد النظام البيئي بأكمله في المنطقة. والخطر الأكبر يتمثل في أن هذه الغابات تبقى في حالة تدهور مستمرة دون أي معالجة فعّالة أو خطط حماية مستدامة، ما يجعلها عرضة للتدهور النهائي وفقدان التنوع البيولوجي الذي تحتويه.
إن استمرار هذا الوضع يشير إلى أن النشاط البشري ليس فقط السبب المباشر في تدهور الغابات، بل أيضًا المساهم الأكبر في زيادة حدة الآثار البيئية للتغير المناخي، الأمر الذي يستدعي تدخلات عاجلة وفعالة لحماية الغطاء الحرجي في كسروان والمحافظة على استدامة البيئة المحلية.
آثار التغير المناخي على الغابات
تتأثر غابات كسروان بشكل بالغ بالتغيرات المناخية، حيث تظهر بوضوح علامات اليباس وموت الأشجار نتيجة ارتفاع درجات الحرارة المستمر لفترات طويلة، بالإضافة إلى نقص التساقطات المطرية الذي يطيل فترات الجفاف. هذه الظروف المناخية القاسية تؤدي إلى ضعف قدرة الأشجار على التأقلم، ما يجعلها أكثر عرضة للأمراض والآفات، وبالتالي يزيد من احتمالية موتها بشكل كامل. وعندما يُفقد عدد كبير من الأشجار، كما في حالة فقدان 3000 شجرة من أصل 5000 شجرة في غابة معينة، يُفقد أكثر من نصف الثروة الحرجية، ما يهدد استقرار النظام البيئي ويضعف قدرة الغابة على أداء وظائفها البيئية مثل تثبيت التربة وتنقية الهواء وتوفير المأوى للكائنات الحية.
كما تؤدي الحرارة المرتفعة والجفاف الطويل والرياح الساخنة دورًا مركزيًا في زيادة خطر اندلاع الحرائق في الأحراج، سواء كانت ناجمة عن نشاطات مفتعلة أو بسبب ممارسات بشرية بسيطة، مثل إشعال الفحم للشواء أو رمي أعقاب السجائر. كما تُشكل الحشائش اليابسة والمخلفات العضوية الملقاة بين الأشجار، والتي تتعرض باستمرار لأشعة الشمس، مادة شديدة الاشتعال، ما يجعل الغابات أكثر هشاشة أمام اندلاع الحرائق التلقائية.
إضافة إلى ذلك، تؤدي هذه الحرائق المتكررة إلى تدهور الغطاء النباتي بشكل مباشر، وتقليل التنوع البيولوجي، وتفاقم فقدان التربة الخصبة، وبالتالي تعرقل دورة الحياة الطبيعية للكائنات الحية في الغابة. ومع تكرار هذه الظواهر، تصبح الغابات أقل قدرة على التعافي الذاتي، ما يهدد استدامتها على المدى الطويل ويزيد من سرعة انتشار التصحر في المنطقة، ويجعل جهود الحفاظ عليها أكثر تعقيدًا وصعوبة.
التحديات والإجراءات المطلوبة
على الرغم من محاولات بعض المناطق تنفيذ خطط بيئية تهدف إلى زيادة الغطاء الأخضر وحماية الغابات، تظل هذه الجهود محدودة وغير كافية لمواجهة التدمير الممنهج الذي تتعرض له الأحراج، خاصة في ظل تأثيرات التغير المناخي المستمرة. فقد أظهرت الدراسات الحديثة دخول حشرات استوائية جديدة إلى لبنان، بما في ذلك أنواع ناقلة للأمراض مثل الأنافل الحاملة للملاريا، الأمر الذي يضاعف المخاطر البيئية والصحية في المنطقة ويعقد إدارة الغابات وحمايتها.
وبحسب الخبير البيئي، يستدعي الوضع الراهن وضع خطط طوارئ علمية ومنهجية، تتضمن تقييم المخاطر المناخية والبيئية بشكل دوري، وتحديد المناطق الأكثر عرضة للجفاف والحرائق، ووضع آليات للتدخل السريع عند اندلاع الحرائق أو انتشار الآفات. كما يتطلب الأمر توفير الموارد البشرية المدربة، والمعدات اللازمة، والتمويل الكافي لدعم هذه الجهود على المدى الطويل. بالإضافة إلى ذلك، فإن وجود إرادة تنفيذية قوية وتنسيق بين الجهات الرسمية والمجتمع المدني يعد حجر الزاوية في نجاح أي استراتيجية لحماية الغابات.
كما حثّ "كامل" المعنيين أن تتضمن هذه الخطط برامج للتوعية المجتمعية، لتثقيف السكان المحليين والزوار حول أهمية الحفاظ على الغابات والتصرف بحذر داخل الأحراج، بما في ذلك منع إشعال النار ورمي النفايات الخطرة، وتبني ممارسات مستدامة في استخدام الموارد الطبيعية. ويجب أيضًا تشجيع البحث العلمي والمراقبة البيئية المستمرة لتقييم فعالية الإجراءات المتخذة وتطوير استراتيجيات مبتكرة لمواجهة التغيرات المناخية.
إن حماية الغابات في كسروان وبقية المناطق اللبنانية ليست مجرد مسألة بيئية، بل هي مسألة حيوية مرتبطة بالحفاظ على التنوع البيولوجي، واستقرار النظام البيئي، والأمن الصحي والاقتصادي للبلاد. ومن دون تكاتف جميع الأطراف المعنية وتوفير الإمكانات اللازمة، ستظل الغابات مهددة بالانقراض التدريجي، وستتفاقم آثار التغير المناخي على لبنان بشكل لا يمكن التراجع عنه.