اوراق خاصة

قرار ترامب ضد الإخوان في إعادة هندسة سياسة "الشرق الأوسط"

post-img

معتز منصور/ باحث سياسي

القرار الأمريكي الأخير بتصنيف بعض فروع جماعة الإخوان المسلمين "منظمات إرهابية"؛ لا يمكن النظر إليه على أنه إجراء أمني محض، هو إعلان سياسي يعيد تشكيل مفهوم الخصم والمعارضة في منطقة الشرق الأوسط. إذ إن الخطوة الأمريكية تذهب أبعد من مساءلة تنظيم بعينه، لتضع معايير جديدة ومسبقة لمن يحق له الوجود السياسي، وتتعامل مع الانتماء الأيديولوجي بكونه شبهة كافية لإدراج أي فصيل خارج حدود الشرعية.

ظهرت، سابقًا، هذا النوع من المقاربات في التعامل مع فاعلين؛ مثل حركة حماس أو حزب الله، حين جرى تحويل التصنيف الى أداة لإعادة رسم توازنات النفوذ. غير أن ما يميز القرار الحالي هو استهدافه تيارًا عابرًا للدول وقادرًا على التعبئة المجتمعية، ما يجعل تجريمه خطوة تتجاوز الحسابات الأمنية إلى محاولة نزع القدرة عن إطلاق أي مشروع سياسي مستقل قد يعيد تعريف قواعد اللعبة في المنطقة.

جماعة الإخوان المسلمين، بما تمثله من تاريخ سياسي طويل في مصر وتونس والمغرب والأردن والسودان، تجد نفسها الآن في قلب هذا الاستهداف. إذ إن القرار الامريكي لا يعاقب ممارسة سياسية محددة، إنما هو يعاقب وجود فكرة منافسة قادرة على تنظيم قواعد اِجتماعية كاملة. وهو منطق يتكرر، في دول عدة، شهدت تضييقا لا يطال الإسلاميين وحدهم، هو يمتد إلى قوى مدنية معارضة أو حركات شبابية اتهمت بالتطرف السياسي لمجرد رفضها الالتحاق بالنموذج الإقليمي المدعوم من واشنطن.

هنا يظهر البعد المرتبط بمصالح "اسرائيل" بشكل مباشر، إذ تميل تل ابيب الى أي مقاربة تقيد القوى المجتمعية في هذا السياق؛ قد تعيد طرح سؤال الصراع معها، سواء عبر صناديق الاقتراع أم عبر حشد الرأي العام، ما يجعل تجريم التيار الإسلامي المعتدل خطوة منسجمة مع تصور إسرائيلي طويل المدى؛ يريد إقفال الباب أمام أي قوى قادرة على بناء تعبئة شعبية واسعة.

رد الفعل الإقليمي على القرار؛ جاء سريعًا، وكانت دولة الإمارات العربية في مقدمة الداعمين. إعلان أبو ظبي بأنّ الجماعات المرتبطة بالإخوان لا يمكنها تحديد مستقبل السودان، لم يكن مجرد تصريح، هو ترجمة فورية للقرار الأمريكي ومحاولة لاستخدامه غطاءً لإعادة رسم المشهد السوداني. النموذج نفسه حدث في ليبيا، حيث سعت الإمارات إلى إقصاء القوى كلها التي تحمل ملامح مشروع سياسي مستقل، سواء أكانت إسلامية أم مدنية، في سياق تفضيلها لمنظومة قابلة للضبط من الخارج. وفي هذه الحالات كلها، لا يمكن تجاهل أن هذا التوجه يتقاطع ومصالح "إسرائيل" التي تفضل انتقالات سياسية خالية من الفاعلين القادرين على تشكيل خطاب جماهيري مناوئ لها، وتجد في استبعاد الإخوان وأمثالهم وسيلة لتقليل احتمالات ظهور حكومات "شرق أوسطية"، تعيد وصل ما انقطع من أجندات داعمة للقضية الفلسطينية.

السودان يمثل، اليوم، ساحة اختبار مركزية لهذا النهج؛ فالقرار الأمريكي وإعلانات الدعم الإماراتي لا يستهدفان تنظيما معزولًا، إنما بنية سياسية متجذرة داخل مؤسسات الدولة، بما في ذلك الجيش الذي حمل عبر عقود تأثيرات التيارات الإسلامية منذ عهد المفكّر حسن الترابي. ولذلك؛ فانّ إقصاء هذا التيار يعني عمليًا إعادة تشكيل واحد من أعمق مراكز النفوذ في البلاد. ومع أن السودان عانى صراعات داخلية متعددة، إلا أن محاولة فرض قواعد اللعبة من الخارج قبل أن تتشكّل داخليًا تخلق سابقة خطيرة؛ يمكن أن تمتد إلى دول أخرى. ومن زاوية العلاقات مع "إسرائيل"، فإنّ إضعاف التيارات المرتبطة بالإخوان يسهّل تمرير مسارات التطبيع، والتي بدأت في السنوات الأخيرة، ويجعل البيئة السياسية السودانية أكثر قابلية لقبول الشروط التي تريدها واشنطن و"تل أبيب" من دون مقاومة سياسية واسعة.

هذا النمط من الإقصاء المسبق لا ينفصل عن تاريخ طويل من التدخلات الأمريكية في المنطقة، حيث يصبح معيار الخطر السياسي مرتبطًا بالقدرة على إنتاج معنى سياسي مستقل، وليس بممارسات العنف. إذ شهدت المنطقة، خلال العقد الأخير، تجريمًا متتابعًا للحركات التي تقدم رؤى إصلاحية مختلفة، بما في ذلك قوى مدنية سلمية، كما حدث في بعض دول الخليج وشمال إفريقيا. وفي أكثر من أنموذج؛ ظهرت "إسرائيل" طرفًا مستفيدًا من تجفيف المجال السياسي العربي، إذ إن أي حراك مجتمعي يملك القدرة على إعادة صياغة الأولويات الوطنية، ولو سلميًا، يفتح الباب أمام عودة ملف الصراع معها إلى الواجهة، وهذا ما يتناقض ورؤيتها القائمة على تحويل الصراع إلى ملف أمني محدود لا يمسّ شرعيتها أو تمددها.

النتيجة هي "شرق أوسط" تجري هندسته؛ ليكون قابلًا للإدارة أكثر مما هو قابل للحياة السياسية. إذ إن الطاعة الاستراتيجية تصبح بديلًا عن السيادة، والانخراط الوظيفي يحل محل المشاركة الشعبية، وتُعاد صياغة الهويات السياسية قبل أن تظهر. وهذا النهج يخدم مصالح "إسرائيل"، بشكل مباشر، إذ يحوّل الدول المحيطة بها إلى كيانات منشغلة بإدارة الداخل ومقيّدة في خياراتها الخارجية، كما يضمن أن تُبقي ميزان القوى مختلاً لمصلحتها من دون الحاجة إلى مواجهة سياسية حقيقية مع شعوب المنطقة. مثال ذلك؛ دعم واشنطن لأنظمة ترى الاستقرار مقابل الطاعة مبدأ حاكمًا، حتى لو أدى ذلك إلى تجميد أي احتمالات إصلاح حقيقي في مصر أو الأردن أو الخليج، ما دام هذا الجمود يحافظ على البيئة الإقليمية التي توفر لـ"إسرائيل" آمانًا استراتيجيًا ممتدًا.

إن ما يجري الآن هو محاولة لإنتاج "شرق أوسط" منزوع المخالب والأفكار، يجري تحييد قدرته على الحلم السياسي، وتطويق أي مشروع لا ينبع من غرف القرار الخارجية.

القرار الأمريكي ضد الإخوان والدعم الإماراتي المباشر له، مع التقاطع الواضح مع مصالح "إسرائيل"، ليست مجرد خطوات منفصلة، هي مسار يعيد رسم حدود الفعل السياسي في المنطقة، ويحسم مسبقًا من يحق له أن يكون جزءًا من المستقبل، ومن يجب شطبه قبل أن يبدأ.

في جوهر هذا المشهد، تتعرض المنطقة لإعادة هندسة كاملة تنزع عنها حقها في إنتاج مشاريعها ورؤاها وصراعاتها الخاصة، وتعيدها إلى مربع إدارة خارجية تضمن الهدوء من دون حرية، والاستقرار من دون سيادة.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد