أوراق سياسية

"إسرائيل" توسّع معركتها مع حزب الله من بوابة انفجار المرفأ.. فتّش عن الفتنة!

post-img

حسين خليفة (لبنان 24)

آخر ما كان يتوقّعه اللبنانيون المتوجّسون من ضربة "إسرائيلية" تكثر التسريبات بشأنها، هو أن يخرج المتحدّث باسم الجيش "الإسرائيلي"  أفيخاي أدرعي عليهم، ليتّهم من خارج السياق حزب الله باغتيال أربعة لبنانيين كانوا يعتزمون كشف معلومات حول انفجار مرفأ بيروت، مع ما ينطوي على مثل هذا الكلام من "استغلال" لجرح لا يزال مفتوحًا منذ العام 2020، وهو جرح لا يزال كثيرون يعتقدون بأنّ "إسرائيل" ضالعة به، بصورة أو بأخرى.
 
هكذا، يتحوّل انفجار مرفأ بيروت إلى ساحة اشتباك جديدة، على خلفية الرواية "الإسرائيلية" "الغريبة" في الشكل كما في المضمون، وفي التوقيت أولًا، والتي جاء فيها أنّ وحدة أمنية تابعة للحزب اغتالت كلًا من الضابطين جوزيف سكاف ومنير أبو رجيلي والمصوّر جو بجاني والناشط لقمان سليم لأنهم "كانوا يعرفون أكثر مما ينبغي" عن حقيقة المواد المخزّنة في العنبر 12 أو لأنهم امتلكوا صورًا ومعطيات تربط الحزب بتخزين نترات الأمونيوم.
 
صحيح أنّ هذا الإعلان لم يحمل أيّ معطيات جديدة يمكن أن تغيّر مسار التحقيق القضائي المتوقّف منذ سنوات، حتّى إنه لم يقترن بأيّ أدلة ملموسة يمكن البناء عليها، لكنّه حمل في المقابل دلالات سياسية واضحة ترتبط بالتوقيت والسياق وطبيعة الرسالة الموجّهة، فلماذا تعود "إسرائيل" اليوم تحديدًا إلى ملف انفجار المرفأ، وفي غمرة المواجهة مع "حزب الله"؟ ولمن توجّه هذه الرواية، وما الذي تتوقّع أن تنتّجه داخل لبنان؟
 
ماذا تريد إسرائيل؟

 
ليست المرة الأولى التي تحاول فيها "إسرائيل" ربط حزب الله مباشرة بانفجار مرفأ بيروت، لكنّها المرة الأكثر تفصيلًا في سرد رواية تتضمن أسماء وأدوارًا وشبه "مسار اغتيالات" متكامل. وبمعزل عن محاولة "إسرائيل" تقمّص دور "الكاشف للحقيقة"، في قضية تعنى ما تعنيه للبنانيين، لا تكتفي بالقول إنّ الحزب مسؤول عن تخزين النترات، بل تذهب أبعد من ذلك عبر الإيحاء بأنه قتل لبنانيين من مؤسسات مختلفة لمنعهم من كشف الحقيقة.
 
من خلال ذلك، تسعى "إسرائيل" وفق ما يقول العارفون لترسيخ فكرة أن جذور الانفجار أمنية لا إدارية أو سياسية، وأن المسؤولية تقع على الحزب لا على الدولة أو المنظومة. وبالتالي، فهي تسعى لإظهار حزب الله في صورة "الفاعل الداخلي" الذي يستهدف لبنانيين، بما يجرّ النقاش من إطار الصراع العسكري الحدودي إلى قلب المجتمع. وبين هذا وذاك، تحاول "إسرائيل" مخاطبة الرأي العام اللبناني الذي فقد الثقة بالتحقيق، وكأنها تقول له إنّها من يملك "الحقيقة".
 
اللافت أنّ تل أبيب لا تقدّم أدلّة يمكن لأي جهة مستقلة أن تتحقّق منها، كما أنها لا تربط هذه الاتهامات بمسار قضائي أو تحقيق دولي، بل تكتفي بإسقاطها إعلاميًا، ما يجعل الهدف سياسيًا بامتياز أكثر منه كشفًا للحقيقة. فالتوقيت ليس بريئًا، إذ بالتزامن مع التسريبات "الإسرائيلية" المتكرّرة عن "حتمية" توسيع العملية العسكرية في لبنان، وهو ما يحوّل سردية المرفأ في مكان ما إلى جزء من "حرب نفسية" تشكّل ضغطًا على الحزب من أكثر من زاوية.
 
الفتنة "سلاح إستراتيجي"
 
عمومًا، ثمّة من يرى أن التوظيف "الإسرائيلي"  لهذه السردية لا يمكن فصله عن قراءة أعمق لطبيعة المواجهة. فمن منظور تل أبيب، المعركة مع حزب الله لم تعد تُخاض فقط على الحدود أو في السماء، بل على مستوى الرأي العام اللبناني، إذ تدرك "إسرائيل" أنّ الضغوط الدولية والعقوبات وإن أحدثت أثرًا، لم تؤدِّ إلى تفكيك الحزب أو تحجيم قدراته، وهو ما يجعل الانقسام الداخلي "ورقة أكثر جدوى من أي جبهة أخرى" بالنسبة إليها.
 
من هنا، يمكن النظر إلى الاتهامات الجديدة كجزء من إستراتيجية "توسيع الجبهة" باتّجاه الداخل، فملف المرفأ هو الجرح الأكثر حساسية في الوعي اللبناني، و"إسرائيل" تراهن على أن الدخول عبر هذا الجرح قد يشقّ صفوف اللبنانيين بشكل أعمق مما تفعل صواريخ الجبهة الجنوبية. وتستند وجهة النظر هذه إلى أنّ الصراع حول المرفأ ليس تقنيًا ولا قانونيًا فقط، بل هو صراع حول معنى الدولة، وحول موقع حزب الله داخل هذه الدولة، وحول العلاقة بين العدالة والسيادة.
 
بهذا المعنى، تتعامل تل أبيب مع الانقسام العمودي اللبناني كـفرصة إستراتيجية. فإذا نجحت في جعل جزء من اللبنانيين يقتنع بأنّ حزب الله "متورّط في كارثة 4 آب"، و"قاتل لشهودها"، وهو المتهم أيضًا بعرقلة التحقيقات بحجّة أنها "مسيّسة"، فإنها تعوّل على أن ينعكس ذلك على الاستقرار الداخلي، وعلى الشرعية الشعبية للحزب، وعلى إمكانيات الضغط عليه من داخل المشهد الوطني، لا من خارجه.
 
هي الفتنة باختصار التي تحاول "إسرائيل" أن تلجأ إليها، في محاولة لضرب الجبهة الداخلية وإضعاف الخصم من قلب مجتمعه. لكن الخطر هنا يتجاوز الحزب نفسه. فاستغلال الفجوة اللبنانية العميقة حول المرفأ يعيد إنتاج صراع داخلي لا سقف له، بين من يرى في الاتهامات "الإسرائيلية" "فرصة لكشف الحقيقة"، ومن يراها "استثمارًا سياسيًا" في مأساة إنسانية، وهذا ما يجعل الاتهامات، بغضّ النظر عن صدقيتها، قابلة لأن تتحوّل إلى وقود لمرحلة جديدة من الانقسام الداخلي الذي لا يقلّ خطورة عن أي تصعيد عسكري.

فهل يُترك ملف المرفأ مفتوحًا أمام كلّ من يريد الاستثمار فيه، أم يُعاد وضعه في مكانه الطبيعي كقضية عدالة وطنية، لا يحقّ لأيّ طرف، داخليًا كان أم خارجيًا، أن يحوّلها إلى أداة في صراعاته وحساباته الخاصة؟

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد