اوراق مختارة

من "نبوءة الإلغاء" الى "شراكة التعزيز" بين الإنسان والذكاء الإصطناعي

post-img

ندى عبد الرزاق (صحيفة الديار)

منذ اللحظة التي ظهر فيها مصطلح "الذكاء الاصطناعي" (AI) على الساحة العامة، ومع سرعة انتشار أدواته، اجتاحت المخيلة الجماعية مشاعر من الهلع والقلق، اذ تم رسم صورة قاتمة لمستقبل يُستبدل فيه العاملون البشر بالآلات الذكية، وتصبح المكاتب فارغة إلا من خوادم صامتة، تدير دفة الاقتصاد العالمي.

وعلى هذا الاساس، كانت "نبوءة الإلغاء الكلي" هي السرد المسيطر في الإعلام والنقاشات العامة، حيث كانت التوقعات تشير إلى أن "الروبوتات" ستغزو المصانع، وأن الخوارزميات ستعوض موظفي خدمة العملاء تماما، وأن المبدعين البشر سيصبحون شيئا من الماضي، أمام قدرة التكنولوجيا على إنتاج المحتوى.

التطوّر لم يستطع خلق روح تشابه تلك التي خلقها الله!

ومن هذا المنطلق، استند هذا التصور النقدي المبكر إلى مغالطات جوهرية، تتمثل في المساواة بين الكفاءة الآلية والقيمة الإنسانية الشاملة. الا ان تلك التكهنات تجاهلت حقيقة مركزية: أن الذكاء الاصطناعي، بفضل قوته الحسابية وقدرته على معالجة البيانات، هو في الأساس نتاج للذكاء البشري. إن مبتكر الذكاء الاصطناعي هو الإنسان نفسه، فالآلة تفتقر إلى الوعي الذاتي أو البوصلة الأخلاقية، أو القدرة على التعاطف وفهم الخلفيات الاجتماعية والثقافية المعقدة، التي تشكل لبّ التجربة الإنسانية.

الـ AI من صنع الانسان!

في المقابل، ومع تراكم الأدلة العملية والتجارب التطبيقية على مر السنوات الأخيرة، خصوصا في دراسات 2025 التي أصدرتها مؤسسات بحثية مرموقة، مثل المنتدى الاقتصادي العالمي ومبادرة MIT لاقتصاد المستقبل، التي تُعنى بقضايا الاقتصاد الرقمي والابتكار التكنولوجي، وتعمل على إجراء أبحاث تتناول موضوعات مثل الذكاء الاصطناعي والخصوصية الرقمية، بدأ هذا السرد القائم على "الإقصاء" في التراجع، ليحل محله نموذج "الشراكة" و"التعزيز". لذلك، أثبتت الوقائع أن القيمة الحقيقية للذكاء الاصطناعي، لا تكمن في استبداله للإنسان، بل في قدرته على العمل جنبا إلى جنب مع الإنسان، كـ "عقل ثانٍ" أو "مساعد ذكي".

التعايش بدل الاستبعاد

وفي هذا السياق، يذكر بروفيسور متخصص في الذكاء الاصطناعي في الجامعة اللبنانية، وفضل عدم الكشف عن هويته، أنه "بدلاً من تحييد الإنسان، يمكن أن يعمل الذكاء الاصطناعي كأداة تحويلية، تعزز وتكمل القدرات البشرية في مختلف المجالات الحياتية. ويتم ذلك عن طريق تفويض المهام المتكررة والمستهلكة للوقت إلى الآلات، مما يتيح للبشر الفرصة للتركيز على الإبداع والذكاء العاطفي".

ويضيف: "إن جوهر العلاقة بين الإنسان والذكاء الاصطناعي يقوم على مبدأ التعاون. فالذكاء الاصطناعي يمتاز بالسرعة والقدرة على الحساب وتحليل البيانات، بينما يتفوق الإنسان في الذكاء العاطفي والقيم والأحكام الحكيمة والإبداع. لذا، فان المستقبل لا يتمحور حول إحلال الآلات محل البشر، بل حول تمكين الإنسان بقدرات هذا الاختراع لبلوغ آفاق أوسع. وفي لبنان، ورغم التحديات الاقتصادية وضعف البنية التحتية، لا تزال هناك فرص واعدة تتيح للأفراد والمؤسسات توظيف هذا التطبيق، لرفع الإنتاجية وتحقيق النمو، مع التأكيد على دوره كوسيلة داعمة لقدرات الإنسان لا كبديل عنها".

اداة للابتكار لا للهلوسة!

ويقول البروفيسور لـ "الديار": "يمكن استثمار هذه الانظمة في مجموعة من القطاعات اللبنانية الآتية:

- مكافحة الاحتيال في القطاع المصرفي: تستطيع المؤسسات المالية في لبنان، توظيف خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتحليل العمليات المالية بشكل فوري ورصد الأنماط المشبوهة، بما يعزز مستوى الحماية ويحد من الخسائر. وبهذا يتركَّز دور موظفي الامتثال على التحقيقات المتقدمة ، بدلاً من مراجعة كل معاملة بشكل يدوي.

- خدمة العملاء: يمكن للمصارف الصغيرة والمتوسطة اعتماد "روبوتات" محادثة مدعومة بالذكاء الاصطناعي، لتولي الاستفسارات الروتينية على مدار اليوم، مما يتيح لموظفي خدمة العملاء التفرغ للقضايا المالية، الأكثر تعقيداً وحساسية.

- الزراعة الدقيقة: قد يستغرب البعض ان المزارع في لبنان يمكنه الانتفاع من الذكاء الاصطناعي، لتحليل صور الأقمار الصناعية أو الطائرات المسيرة، بهدف متابعة صحة المحاصيل والتنبؤ بمتطلبات الري ورصد الآفات في مراحلها الأولى. لكن هذا لا يلغي دوره، بل يزوّده ببيانات دقيقة تعزز قراراته، وتساعده في رفع الإنتاجية وتقليل الهدر المائي، وهو أمر بالغ الأهمية محلياً، لا سيما مع تعرض العالم مؤخرا لموجات جفاف، بما في ذلك لبنان.

- تطوير البرمجيات واختبارها: يمكن للمطورين اللبنانيين الاعتماد على أدوات مساعدة قائمة على الذكاء الاصطناعي، لتسريع كتابة الأكواد واختبارها، مما يقلّص زمن تطوير المنتجات التقنية. ويبقى دور المبرمج محورياً في التصميم والهندسة والإبداع.

- تحليل البيانات للشركات: تستطيع الشركات الاستشارية الصغيرة توظيف الذكاء الاصطناعي، لتقديم حلول تحليل بيانات متعمقة، بما يساند المؤسسات الأخرى في فهم السوق، واتخاذ قرارات استراتيجية أدق.

- البحث العلمي المتقدم في القطاع التربوي والتعليم العالي: تتمكن الجامعات والمؤسسات البحثية في لبنان من توظيف الذكاء الاصطناعي، لتحليل كميات ضخمة من الدراسات العالمية بسرعة ودقة، مما يدعم الباحثين المحليين في مجالات مثل الطاقة المتجددة والهندسة، ويُسهم في تسريع الابتكار وإثراء الإنتاج العلمي.

الميكنة والحوسبة الذكية

ويتابع: "بالإضافة الى استخدامه في تحرير وإنتاج المحتوى وبرامج التصميم، لا سيما في مجال الهندسة والتصميم وبخاصة الجرافيكيين. من جهة أخرى، يتولى المصمم البشري مهمة صقل هذه النماذج، وإضفاء الحس الفني عليها، والتأكد من توافقها مع هوية العلامة ورسالتها، وهو دور لا يمكن أن يؤديه الذكاء الاصطناعي وحده، نظراً لافتقاده البعد الإنساني".

ويجزم: "في كل هذه المجالات، يعمل الذكاء الاصطناعي بمثابة "مساعد ذكي"، يخفف عن الإنسان المهام المتكررة ويعزز إنتاجيته، دون أن يقلل من دوره أو يحلّ مكانه. علما بأنه قد شاع لفترة مبكرة الاعتقاد بأن الأتمتة الشاملة ستغني عن دور الإنسان، إلا أن التجارب أثبتت أن الآلات الذكية غالباً ما تعيد تشكيل الأدوار المهنية بدلاً من إزالتها بالكامل، بحيث يتحول التركيز نحو المهام الإشرافية والتحليلية والإبداعية".

دراسات

ويكشف: "هناك مجموعة واسعة من الابحاث الحديثة التي تدعم بقوة فكرة، أن الذكاء الاصطناعي أصبح عامل تعزيز للقدرات البشرية وليس بديلاً عنها. وفيما يلي أبرز ما تناولته أهم المؤسسات العالمية:

1- تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي 2025: ويُعد تقرير مستقبل الوظائف 2025 من أهم الإصدارات، التي ترصد التحولات في سوق العمل. وقد خلص التوثيق الى ان التكنولوجيا ستظل القوة الأكثر تأثيراً، لكنها ستؤدي إلى خلق فرص جديدة تفوق الوظائف التي ستختفي. فبينما يُتوقع اختفاء نحو 92 مليون وظيفة، يتوقع أيضاً نشوء 170 مليون وظيفة جديدة بحلول عام 2030، ما يدل على انتقال وظيفي وليس إلغاءً. وتشير الدراسة إلى أهمية نموذج "التعزيز"، الذي ينسجم مع أدوار تتطلب الإبداع والقيادة والتفاعل الإنساني، وهي مهارات لا يمكن للذكاء الاصطناعي محاكاتها بالكامل.

2- دراسة MIT Sloan لعام 2025: أصدرت كلية سلون للإدارة عدة دراسات خلال آذار وتموز 2025 حول العلاقة بين الإنسان والآلة في بيئة العمل. كما تركّز الدراسات على مفهوم "التكامل" بدل الخوف من الإحلال، وتؤكد أن الذكاء الاصطناعي يميل إلى استكمال عمل الإنسان أكثر من استبداله. وتبين النتائج أن الشركات التي تدمج الذكاء الاصطناعي بشكل مدروس، تحقق ميزة تنافسية عبر تعزيز قدرات العاملين، مع التأكيد على أن التعاطف والحدس والأخلاق والإبداع تبقى قدرات إنسانية خالصة.

3- تقرير ماكنزي 2025: يتناول تقرير ماكنزي حول اتجاهات التكنولوجيا 2025 ، التحول في دور وكلاء الذكاء الاصطناعي. ويصف التقرير مرحلة جديدة يصبح فيها وكلاء الذكاء الاصطناعي "زملاء عمل افتراضيين"، مما يفتح الطريق أمام فرق مختلطة تجمع بين الإنسان والآلة في إنتاج أسرع وأكثر فعالية.

نستنتج في الخلاصة ان الإنسان يبقى محور العمل والقرار، بينما يدعم الذكاء الاصطناعي الإنتاجية والكفاءة. فاطمئنوا!

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد