حمزة البشتاوي/ كاتب وإعلامي
منذ معركة طوفان الأقصى، في السابع من تشرين الأول من العام 2023 وبداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، عاد السؤال مجددًا عن غياب النخب والتيارات والأحزاب العربية عن دورها الطبيعي في الميادين والساحات، إزاء ما تتعرض له فلسطين والمنطقة من عدوان إسرائيلي يستهدف الأرض والإنسان.
هذا السؤال لا ينفي وجود تحركات وفعاليات وأنشطة أقيمت تحت عنوان دعم الشعب الفلسطيني ومقاومته ورفض التطبيع، إضافة إلى حملات الإغاثة وحركة المقاطعة وإصدار البيانات. لكن هذا الحراك لم يتحول إلى ضغط شعبي وسياسي حقيقي يسهم في دعم صمود الشعب الفلسطيني وكفاحه من أجل الحرية والاستقلال والخلاص من الاحتلال. مع العلم أن النخب والتيارات والأحزاب العربية تمتلك فرصًا ومجالات ومساحة للتأثير والحضور الذي بقي محدودًا، ولم يحدث فارقًا ميدانيًا في مواجهة حرب الإبادة والعدوان.
رأت الأنظمة الرسمية العربية وأجهزتها هذا الغياب إنجازًا أمنيًا لها وللسفارات الإسرائيلية والأمريكية، والتي لم تشعر بأي غضب أو صوت يخترق جدرانها؛ خاصة من النخب السياسية والثقافية التي منيت بخسارة كبيرة على صعيد المصداقية والمكانة وعدم الحضور، إلا في سياق التغطية على العجز ورفع العتب عن خضوعها للأنظمة.
لما كانت مواقف معظم الأنظمة العربية القبلية المخزية والهمجية إلى حد الوقاحة والسلبية الحاقدة، خاصة إزاء الشعب والمقاومة في فلسطين ولبنان، فإن المواقف التي لا تقل خذلانًا وانبطاحًا واستسلامًا كانت من بعض القوى والهيئات ذات التوجهات اليسارية والقومية، ومن تدعي بأنها "إسلامية"، والتي لم تحرك ساكنًا، بل إنها أوقفت الحديث عن المقاومة وفلسطين والتصدي للاحتلال، بعد أن كانت سابقًا تتحدث عن سحق الصهيونية والإمبريالية والرجعية في كل مكان.. اليوم؛ تسرح وتمرح في أحضان الرجعية التي لم تكتفِ بالصمت والخذلان.
في حرب الإبادة على غزة والعدوان على لبنان انقسمت معظم النخب الثقافية والسياسية العربية قسمين: الأول وصل إلى مستوى غير مسبوق من الارتهان والانبطاح والتعاطي السلبي مع القضايا الأساسية المرتبطة بكرامة الأرض والإنسان. وعمل كثير منهم بوقًا عند الرجعية العربية ووسائلها الإعلامية التحريضية؛ وذلك بهدف التشويه وقلب الحقائق والمفاهيم. وأما المستوى الثاني؛ فقد دخل في سبات معنوي، وأغلق على نفسه في كهف الصمت إلى حد التماهي مع القسم الأول في الموقف والممارسة.
أقتصر دور بعض النخب الثقافية العربية، والتي روّضت كي تتخلى عن دورها مع تأكيد استثناء من رفضوا هذا الخضوع والارتماء في أحضان السلطة، بالتسويق لمواقف وسياسات الأنظمة الرجعية وصياغة خطاب مناسب لها مع طرح عناوين مثل الممكن والموضوعية والحياد.
من أبرز مؤشرات غياب وتراجع الدور الطبيعي والثوري للنخب الثقافية والتيارات السياسية، والتي كانت تدعو إلى التغيير ثم اصبحت تعمل من أجل التجميل، بعد أن ابتعدت وتخلت عن فكر وثقافة المقاومة، هو انزلاقها بحماس غريب نحو مشروع السلطة والسيطرة الناعمة.
ما تزال بعض النخب والتيارات العربية تحضر على هيئة استعراض لغوي فج فارغ من أي مضمون، بمفردات تنتج إنبهارًا زائفًا في خطاب التماهي مع السلطة التي تعمل في خدمة مشاريعها. ومنها على سبيل المثال؛ تحويل أماكن مثل المخيمات الفلسطينية في الشتات من بيئة حاضنة للمقاومة إلى بيئة هشة غارقة في المشكلات والمتاعب والآفات. وذلك بهدف التبروء منها والابتعاد عنها نحو أبراج السلطة والعمل على ما تسميه تعقيم خطابها من أثر المكان بعد الانفصال عنه، مع تأكيد حقيقة أن أي إنفصال عن الناس وواجب الدفاع الحقيقة والأرض هو فعل خيانة لا أكثر ولا أقل.
في بيئة التمسك بالحق والحقيقة وسلاح الدفاع عن الأرض والإنسان، تمشي النخب السياسية والثقافية العربية بلا أثر حقيقي أو معنى كونها، وبالحد الأدنى، مأزومة وملوثة بالوهم، وتجلس على كل الموائد خاضعة من دون قمع أو إخضاع. وأصبحت الكرامة عندها مؤجلة والنجاة اليومية أهم من الحرية، فابتعدت تاليًا عن كثير من المعرفة والفعل والقدرة على صياغة مشروع، ولم تعد بنظر الناس سوى طبقة خطابية رخوة تعيش على الهوامش الناعمة للسلطة، وتطرح شعارات مدفوعة الأجر لا تؤمن بها، وتهاجم أحيانًا الرجعية والصهيونية والاستعمار روّج لهم في المقالات والإبحاث والدراسات والمشاريع الأدبية. وهنا؛ تكمن تمامًا إحدى الفوارق ما بين المثقف المشتبك والمثقف الملتحق بالسلطة وأمراض الفشل الذاتي.
تخطت حرب الإبادة على قطاع غزة والعدوان على لبنان معظم النخب العربية، ولم يعد السؤال عن دورها الغائب أمرًا مهمًا بعد أن أصبحت هذه النخب شيئًا من الماضي بسبب الانكفاء الخطير لها وحتى لمعظم جماهير اليسار العربي وغيرهم من التيارات الفكرية والسياسية التي فشلت أمام التحديات المصيرية التي فرضتها الحرب والعدوان. ولم يستطيعوا إحداث أي فرق في الواقع العربي البغيض، ما أدى إلى سقوط صورة هذه النخب والأحزاب والتيارات في الوعي الجمعي للشعوب التي ادعت تمثيلها. وكان هذا السقوط بمثابة انحراف عن الواقع والمحيط وسط أسئلة وإشكاليات أخلاقية عن الدور والمهام والموقع والمصير.
كما أعادت الحرب والعدوان السؤال عن فعالية هذه النخب والتيارات إزاء التهديدات الوجودية التي لم تقابلها الأنظمة العربية ونخبها وأحزابها إلّا في بيانات التنديد والاستنكار والعجز الذي تحول إلى مشاركة بالحرب والعدوان على غزة ولبنان في تعبير عن خيارات الأنظمة نحو التطبيع والإستسلام والعداء لفكر وثقافة المقاومة.
إذا كانت معظم النخب والتيارات والأحزاب العربية لا تستحق هذا النقد؛ فأين هي من ما يجري وأين موقفها من العدو الإسرائيلي والأنظمة المطبعة والمتحالفة معه؟ وأين هي النخب الحقيقية، ولماذا تعيش اغترابًا عن هموم الأمة وقضاياها المحقة والعادلة؟..
لماذا هذه الشيخوخة القاحلة والمواقف الباردة، والتي لم تتلقفها -مع الأسف الشديد- إلّا الجماهير الصامتة الخارجة عن دائرة الفعل والتفاعل مع الأحداث.