معتز منصور/ باحث سياسي
في لحظة تاريخية يزداد فيها انكشاف وجه إسرائيل الدموي أمام الرأي العام العالمي، تتبدل خرائط الوعي بسرعة تفوق قدرة الاحتلال على احتوائها. صور الأطفال الممزقين تحت الركام والناجين الذين يسردون ما عاشوه بلا قدرة على التزييف أو التحوير، خلقت شرخا أخلاقيا داخل الغرب لم تشهده العقود الماضية.
في هذه البيئة الجديدة، تبرز أهمية كل حركة سياسية أو إعلامية قادرة على وضع الرأي الغربي أمام الحقائق، بشكل مباشر، حتى لو جاءت من خلال مبادرات عربية تبدو للوهلة الأولى محدودة أو رمزية.
بهذا المعنى؛ تكتسب استضافة قطر لــ"تاكر كارلسون" قيمة تتجاوز البروتوكول. الرجل ليس مجرد إعلامي مشهور؛ إنه أحد أكثر الأصوات تأثيرًا في اليمين الأميركي، أي في البيئة التي كانت لعقود طويلة الحاضنة الأقوى للصهيونية. وضعه وجهًا لوجه أمام الأطفال المصابين وبقايا أطرافهم المبتورة لم يكن عملاً دعائيًا، بل عملية تفكيك هادئة للغلاف الأخلاقي الذي حاول الإعلام الأميركي لمدة طويلة تغليف جرائم الاحتلال به. وما تلا ذلك من تصعيد في خطابه لم يكن مفاجئا؛ فقد وجد كارلسون نفسه أمام جريمة لا يستطيع الخطاب التقليدي تسويغها، ولا هو قادر على تجاهلها أمام جمهوره الذي يتابع تحوله لحظة بلحظة.
في القاهرة، يتكرر المشهد بطريقة مختلفة؛ لكنها لا تقل أهمية. استضافة شيخ الأزهر لــ"جيفري ساكس"، وهو أحد أبرز المفكرين الأميركيين في نقد الإمبريالية والصهيونية، لم تكن لقاء مجاملة، بل كانت خطوة تعي تمامًا وزن هذا الرجل داخل الجامعات وصنع القرار العالمي. ساكس، بخلفيته الاقتصادية والسياسية وتأثيره الدولي الواسع، قادر على نقل شهادته وتحليله داخل بيئة أكاديمية وإعلامية تستمع إليه بجدية، وتتعامل معه بصفته أحد الأصوات القليلة التي تملك مصداقية كافية لزعزعة السرديات المستقرة.
حين ننظر إلى الحدثين معا، يتضح أن قيمتهما ليست في حجمهما الظاهري، بل في اتصالهما بتيار عالمي آخذ في الاتساع، تيار تمثله مجموعة من أهم الأصوات الغربية التي كسرت احتكار إسرائيل للرواية داخل الغرب. تاكر كارلسون هنا ليس ظاهرة منفصلة، هو جزء من حركة إعلامية واسعة تضم بيرس مورغان الذي فتح نافذته المتدفقة للمواجهة، وجون ستيوارت الذي عاد بخطاب ساخر يحطم تناقضات الرواية الصهيونية أمام جيل كامل من الشباب الأميركي. على الضفة الفكرية، يقف جيفري ساكس ونعوم تشومسكي صوتان يمتلكان القدرة على ضرب البنية العميقة للخطاب السياسي الغربي، في حين تبرز بيلا حديد بصفتها وجها ثقافيا له تأثير جماهيري خام يتجاوز السياسة، ويصل إلى جمهور لا يتابع نشرات الأخبار ولا يقرأ التقارير.
هذه المجموعة ليست سوى نموذج لطبقة واسعة من الأصوات، تمتد من الصحفيين المستقلين إلى الفنانين والباحثين والسياسيين، ممن بدأوا يكسرون هيمنة السردية الإسرائيلية في الغرب. ما يضاعف أثرهم، اليوم، هو أن اللحظة الدولية نفسها أصبحت خصبة لمثل هذا التحول؛ فقد تلاشت قدرة الاحتلال على التحكم الكامل في الصورة، وانهارت بعض الأساطير المؤسسة لشرعية روايته تحت ضغط الوقائع المتدفقة.
على الرغم من أن العالم العربي ما يزال عاجزًا عن تحويل هذه اللحظة إلى استراتيجية متكاملة، فإن المبادرات المحدودة التي تظهر هنا وهناك تثبت أن الفرصة ليست مغلقة تمامًا. اللقاء الذي يبدو عاديًا يمكن أن يصبح حدثًا مفصليًا حين يمر عبر شخصية تمتلك قدرة على نقل أثره إلى فضاء أوسع. والزيارة التي تُعد بروتوكولية، في سياق عربي، تتحول إلى مادة مفجرة للرأي العام حين يرويها شخص مثل ساكس أو كارلسون لجمهورهما في الغرب.
المشهد كله يقول إن اللحظة الحالية ليست مجرد موجة تعاطف، هي نقطة انعطاف تاريخية في علاقة الغرب بإسرائيل. إذا استطاعت الدول العربية أن تعي هذه الحقيقة، وأن تنتقل من المبادرات الفردية المتفرقة إلى بناء رؤية موحدة تستثمر الأصوات الغربية الصاعدة، فقد تتحول هذه الظاهرة من مجرد صدى إنساني إلى قوة سياسية تعيد تشكيل ميزان الشرعية في المنطقة. أما إذا استمر العجز العربي على حاله، فإن هذه الأصوات الغربية ستبقى تتحرك منفردة، قادرة على إحداث أثر؛ لكنه يظل أقل بكثير مما يمكن تحقيقه لو وجد من يحتضنه، ويدفعه نحو مسار أكبر وأعمق.