اوراق مختارة

‏وطنٌ ينهار جوعاً وسطَ صخبِ السّاسة!

post-img

عباس المعلم (صحيفة البناء)

في بلادٍ كانت تُلقّب ذات زمن بـ«سويسرا الشرق»، يستفيق الناس اليوم على وقع الجوع لا على نشيد الوطن، وعلى صدى الأسعار لا على صوت الدولة…

‏لبنان لم يعد وطناً يتعثّر، بل صار كياناً يُستنزف ببطءٍ مُتعمّد، تُدار فيه الأزمات كأنها قدرٌ مُقدّس، فيما تتفرّج السلطة من شرفات الانقسامات، وتغرق في متاهات الصراعات، تاركة الشعب فريسةَ السوق المتفلّت، والمصارف المتجبّرة، والمصالح المتشابكة، بينما تشير التقديرات الدولية إلى أنّ الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي للبلاد قد انكمش بما يقارب 40% منذ عام 2019، في واحدة من أعنف الانهيارات الاقتصادية المسجّلة عالمياً في زمن السلم.

‏لم تعد الأزمة الاقتصادية ظرفاً عابراً، بل تحوّلت إلى بنيةٍ مزمنة، تُدار بلا خجل، وتُركن بلا معالجة!

‏الغلاء المعيشي ارتفع إلى مستوياتٍ صادمة خلال الأشهر الأخيرة، لا يضبطه رقيب ولا يلامسه ضمير؟! إذ تجاوز معدّل التضخّم التراكمي عتبة 300% خلال سنوات الانهيار، فيما لا تزال التوقعات تشير إلى تضخّم سنوي يقارب 15% في عام 2025، في بلدٍ تُترك فيه الأسعار بلا سقوف ولا محاسبة.

‏سلة الغذاء تحوّلت إلى ترف، والدواء إلى رحلة إذلال، والخبز إلى معادلةٍ قاسية بين الحاجة والكرامة.

‏وفي المقابل، انشغلت القوى السياسية بحروبها الصغيرة، بخلافاتها على الحصص والاصطفافات، وبمعاركها الوهمية على الشاشات والمنصّات، بينما تركت الاقتصاد ينزف حتى آخر قطرة، في وقتٍ سجّل فيه الاقتصاد انكماشاً بنحو 7% خلال عام 2024 وحده وفق تقديرات المؤسسات المالية الدولية.

‏أموال المودعين ما زالت مُحتجزة خلف جدران الصمت والفساد، لا قانون يُنصفهم ولا دولة تحميهم، فقط وعودٌ تتآكل، ولجانٌ تُولد ميّتة، وخططٌ تُكتب لتُدفن، في ملفٍّ تقدَّر فجوتُه المالية بأكثر من 70 مليار دولار أميركي ما بين خسائر مصرفية وودائع مجمّدة. الفساد لم يعد حالةً عارضة، بل صار نظاماً متكاملاً، تُدار به التعيينات، وتُحسم به الصفقات، وتُصاغ به السياسات على قياس أصحاب النفوذ، فيما المحسوبيات تبتلع ما تبقّى من مفهوم الكفاءة والعدالة، وسط تقديرات غير رسمية تشير إلى أنّ كلفة الهدر والفساد في مرافق الدولة تجاوزت 5 مليارات دولار سنوياً على مدى سنوات.

‏أما ملف الطاقة، فحدّث ولا حرج… كهرباء بلا كهرباء، ومؤسّسة بلا إنتاج، ومليارات أُنفقت ولم تُنِر بيتاً إلا على الورق، حيث تجاوزت خسائر قطاع الكهرباء وحده 40 مليار دولار أميركي منذ التسعينات.

‏المولّدات صارت دولةً موازية، والظلام بات شريكاً يومياً في حياة الناس! وملف النفايات لا يزال شاهداً على الإفلاس الأخلاقي والإداري، جبالٌ من القمامة، وبحارٌ من التلوّث، وهواءٌ مثقلٌ بالروائح السامّة، في بلدٍ حُرم حتى من حقّه في بيئةٍ نظيفة.

‏الخدمات العامة انهارت كما تسقط الجدران المتصدّعة، لا بنى تحتية تليق بوطن، ولا اتصالات تواكب العصر، ولا إدارة تحفظ الحدّ الأدنى من الكرامة…

‏التضخم يركض بلا لجام، فيما النمو غائبٌ تماماً، كأنه ممنوعٌ بقرارٍ سياسي معلن أو غير معلن، في وقتٍ لا يتجاوز فيه النمو المتوقّع ـ إن حصل ـ سقف 3% إلى 4% بعد سنوات من الانهيار التراكمي.

‏الأجور في القطاعين العام والخاص تحوّلت إلى أرقام رمزية لا تحمي أسرة ولا تضمن حياة، رغم أنّ الحدّ الأدنى للأجور ما زال فعلياً تحت خط الفقر، بينما أكثر من 80% من السكان باتوا تحت عتبة الفقر وفق تقديرات أممية، في حين تُرفع الأسعار كأنها تسابق الزمن في سحق ما تبقّى من قدرة الناس على الصمود.

‏الصحّة أصبحت رفاهية لا يملكها إلا المحظيّون، والاستشفاء معركة يومية مع المستشفيات وشركات التأمين والدولار!

‏ التعليم يتراجع، والمدارس والجامعات الرسمية تناضل للبقاء، فيما تُهمل الدولة بناء الإنسان، كأنها قرّرت رسم مستقبلٍ بلا وعي وبلا كفاءة.

‏القدرة الشرائية للمواطن انحدرت إلى مستوياتٍ مهينة، والفقر تمدّد كوحشٍ جائع، والبطالة صارت المصير الطبيعي لجيلٍ كامل، بعدما لامست معدلات البطالة مستويات تقارب 30% بين الشباب، يُدفَع قسراً نحو الهجرة أو اليأس.

‏هكذا يُدار لبنان: وطنٌ مُعلّق بين شلل القرار وسُعار المصالح، بين خطاباتٍ رنّانة وواقعٍ مُهين، بين سلطةٍ تتقن فنّ الهروب وشعبٍ يُتقن فنّ الاحتمال والإحباط الصامت، في ظل عجزٍ ماليٍّ سنويٍّ يراوح بين 10% و15% من الناتج المحلي الإجمالي.

‏لا خطّة إنقاذ، ولا مشروع نهوض، بل سياسة إدامة الألم، وإدارة الخراب، وتسويق الوهم.

يبقى السؤال الأكثر قسوةً؟ إلى متى يُترك الناس وحدهم في مواجهة الجوع والذلّ؟ إلى متى تبقى الدولة مجرّد شعار، والعدالة مجرّد خطبة، والكرامة مجرّد ذكرى؟ لبنان اليوم لا يحتاج خطابات، بل صدمة ضمير… وإنْ لم تأتِ، فالسقوط لن يكون استثناءً، بل قاعدة حتمية…

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد