د . ماجد جابر (صحيفة الديار)
لم يعد التنمّر حبيس باحة المدرسة والصفّ والحافلة المدرسية، بل بات يلاحق الأطفال والمراهقين إلى غرفهم وشاشاتهم، إلى أكثر لحظاتهم هشاشة ووحدة. ما كان خلافًا عابرًا بين أقران تحوّل إلى منظومة من الإقصاء والتشهير والتهديد والابتزاز، تعمل بلا توقّف، خارج المكان والزمن، وتستثمر في الصمت أكثر من الضجيج. إنّه عنفٌ لا يترك كدمات، لكنه يحفر ندوبًا عميقة في الذاكرة والوعي والسلوك، تظهر في انسحاب اجتماعي، وقلق دائم، ونظرات مرتابة بعد كل إشعار، وجهاز يُخفى وكأنّه مصدر الخطر ذاته.
في هذا السياق، لا يمكن اختزال التنمّر الرقمي في كونه امتدادًا رقميًا لسلوك عدواني تقليدي، بل غدا ظاهرة نفسية-اجتماعية معقّدة، تتقاطع فيها التكنولوجيا مع هشاشة الهوية المراهِقة وثقافة رقمية تُكافئ القسوة وتُخفي المسؤولية. خلف منصّات اللعب والدردشة وصور البروفايل "البريئة"، تتشكّل بيئات عالية السُمّية قادرة على إعادة تشكيل شخصية طفل، تعطيل مساره الدراسي، تفكيك علاقته بجسده، ودفعه إمّا إلى الانكفاء أو إيذاء الذات. ومع تزايد الدراسات التي تربط هذا العنف بأعراض اضطراب ما بعد الصدمة، واضطرابات الأكل، والاكتئاب والقلق، وظهور شبكات رقمية إجرامية تستهدف القاصرين، يتضح أنّ المجتمعات تتأخر في إدراك حجم الكارثة.
كيف نعيد بناء الوعي؟
من هنا ينتقل السؤال من "كيف نحمي أولادنا؟" إلى: كيف نعيد بناء الوعي والحماية والإنسان في عصر بلا أبواب؟ وكيف يتحوّل التنمّر الرّقمي إلى صدمة نفسية مُمنهجة تشبه حروبًا صغيرة على عقول الأطفال؟ ولماذا يلجأ بعض المراهقين إلى العنف الرقمي كوسيلة قوّة أو تفوّق؟ وما حدود دور الأسرة والمدرسة حين يكون المتنمّر شاشةً وخوارزمية؟
تكشف مقالة لصحيفة Washington Post (16 كانون الأول 2022) فجوةً حادّة بين ما يعيشه المراهقون رقميا وما يتصوّره الأهل. فوفق استطلاعPew Research Center ، تعرّض 46٪ من المراهقين (13–17) لنوع واحد على الأقل من ستة سلوكيات للتنمّر الرّقمي، وتعرّض 28٪ لأكثر من نوع؛ أبرزها الألقاب الجارحة (32٪)، الشائعات الكاذبة (22٪)، تلقّي صور جنسية غير مرغوبة (17٪)، التعقّب الرقمي من شخص غير الأهل (15٪)، التهديدات الجسدية (10٪)، ونشر الصور الحميمة دون موافقة (7٪)، إلى جانب الاستبعاد المتعمّد من مجموعات الدردشة.
"التجارب السلبية في الطفولة"
وتظهر الهشاشة بوضوح لدى الفتيات (15–17) إذ بلغت النسبة 54٪ مقابل 44٪ للفتيان (15–17) و41٪ للفئة الأصغر (13–14)، ما يجعل العنف الرقمي جزءا من "مناخ" الحياة اليومية للمراهقين. وتدعم مقالة ثانية (31 أيار 2025) التحوّل الأبرز في فهم الظاهرة: التنمّر الرّقمي قد يُخلّف أعراض اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD)، فاستنادا إلى عيّنة ممثّلة من المراهقين (13–17)، أفاد نحو 53.9٪ بأنهم تعرّضوا للتنمّر سابقا، وكانت الأشكال الأكثر شيوعًا: تعليقات مهينة، شائعات، واستبعاد متعمّد من مجموعات الدردشة.
وتُظهر النتائج أنّ العامل الحاسم هو تكرار الاعتداء لا نوعه، إذ ترتفع الأعراض كلما تكرّر التنمّر، بينما تتقارب المخاطر النفسية بين الإشاعة والتهديد والاستبعاد. ومن هنا يخلص التحليل إلى استنتاج نظري مهم: ينبغي إدراج التنمّر الرّقمي ضمن "التجارب السلبية في الطفولة" (ACE)، بما يستدعي مقاربات أسرية ومدرسية حسّاسة للصدمة تتجاوز الوعظ والعقاب إلى دعم نفسي وتربوي منظّم.
تُعمّق مقالة ثالثة في الجريدة نفسها (6 كانون الأول 2023) البعدَ الصحيّ الخفيّ للتنمّر الرّقمي، إذ تعرض دراسةً على أكثر من 10,000 طفل/ة بين 10 و14 عاما في الولايات المتحدة، وتخلص إلى أنّ الأطفال الذين تعرّضوا للتنمّر الرقمي كانوا مرّتَين أكثر عرضة لإظهار أعراض اضطرابات الأكل، رغم أنّ متوسط العمر كان 12 سنة (أي قبل السنّ الشائع لفتح حسابات سوشال ميديا).
وتشير النتائج إلى أنّ نحو 10٪ من المشاركين أبلغوا عن تعرّضهم للتنمّر، وغالبا حول المظهر الخارجي، ما يطلق سلوكيات غذائية مقلقة مثل الخوف من زيادة الوزن أو الاقتصار على الأطعمة منخفضة السعرات، في مرحلة مبكرة تُزرع فيها بذور اضطراب العلاقة بالجسد. وتنبّه الدراسة إلى أنّ بعض المتنمّرين قد يعانون اضطرابات مشابهة، في دورة يتحوّل فيها الضحية إلى متنمّر.
"علامات صغيرة" في الجسد والنفس والسلوك
تتّفق تقارير الأكاديمية الأميركية لطبّ الأطفال (AAP) في Pediatrics ومنصّة HealthyChildren.org، وإرشادات اليونيسف (UNICEF)، وغيرها من المواقع والوثائق، على أنّ ضحية التنمّر الرّقمي نادرا ما تقول صراحةً إنها تُؤذى، بل تُفصح عنها "علامات صغيرة" في الجسد والنفس والسلوك. من أبرزها: شكاوى جسدية متكررة بلا سبب طبي (صداع/معدة)، تغيّر مفاجئ في المزاج (قلق، انسحاب، عصبية) مع اضطراب النوم أو الشهية، تراجع دراسي أو رفض المدرسة، وخوف أو توتر بعد استخدام الهاتف.
وتضيف اليونيسف مؤشرات نفسية وعاطفية (خجل، غضب، خوف، إحراج، وفقدان الاهتمام بالأنشطة) وأخرى جسدية (أرق، تعب دائم، آلام). كما تُشير Mayo Clinic Health System إلى كوابيس ونوم غير منتظم، أكل مفرط أو فقدان شهية، انخفاض الثقة بالنفس، وعبارات سوداوية مثل: "ما حدا بيحبني/أنا فاشل/ما في داعي عيش". وينبّه StopBullying.gov إلى جروح غير مفسّرة قد ترتبط بإيذاء الذات، ضياع أغراض أو تمزّقها، مخاوف جديدة من الحافلة أو المدرسة، وتبدّل الأصدقاء وتجنّب المواقف الاجتماعية. أمّا Cyberbullying.org فيركّز على “الأعلام الحمراء” الرقمية: حزن بعد التصفح، إخفاء الشاشة عند اقتراب الأهل، حذف حسابات أو تغيير كلمات السرّ فجأة، الانقطاع عن الحديث عن الحياة الرقمية أو التعلّق المفرط بالجهاز.
استجابة تربوية مُنظَّمة
وتؤكد الجهات التعليمية والحكومية أن تغيّرات الشخصية (حزن/قلق/انطواء)، البكاء المتكرر أو الحديث عن انعدام القيمة/الرغبة بالموت، وتقلب استخدام الأجهزة بين الإدمان والهروب الكامل، مع غضب عند السؤال “شو كنت عم تعمل؟”، كلها إشارات تستحق الانتباه.
تُظهر المراجعات العلمية حول التدخّلات الفعّالة أنّ رصد الإشارات لا يكفي ما لم يُترجَم إلى استجابة تربوية منظَّمة تشترك فيها الأسرة والمدرسة. فمراجعة في Frontiers in Psychology تؤكد أنّ المقاربة الشاملة على مستوى المدرسة أكثر فاعلية من المبادرات الجزئية، لأنها تقوم على تدريب المعلّمين على الرصد والتدخّل المبكر، إشراك الطلاب في وضع قواعد السلوك الرقمي، واعتماد سياسات واضحة للإبلاغ والمتابعة.
وتدعم دراسة اخرى هذا الاتجاه، مبيّنة أن أنجح التدخلات هي التي تمزج بين التثقيف الرقمي وتنمية التعاطف والمهارات الاجتماعية ومهارات المواجهة الآمنة، بينما تبقى المقاربات العقابية (كالطرد والعقاب الانفعالي) قاصرة إن لم تُرفَق بمكوّن تعليمي–علاجي. أمّا دراسة Chicote-Beato وزملائة (2024) فتبرز أهمية البدء بالتربية الرقمية مبكرا قبل المراهقة، وتوحيد الرسائل بين البيت والمدرسة عبر إشراك الأهل.
لماذا يُمارس بعض المراهقين التنمّر الرّقمي؟
عمليا، تقدّم UNICEF مع HealthyChildren.org وCyberbullying.org ، وغيرها ، إطارًا واضحًا للتعامل: الاستماع دون لوم وخلق مساحة آمنة للكشف، توثيق الأدلة (لقطات شاشة/رسائل/تواريخ) تمهيدًا للإبلاغ للمنصّة أو المدرسة أو الشرطة عند الخطر، إرشاد الطفل إلى عدم الردّ بالمثل بل استخدام الحظر والتبليغ، طلب دعم نفسي متخصص عند مؤشرات اكتئاب/قلق/إيذاء ذاتي، وتجنّب مصادرة الجهاز كعقاب لصالح تحقق هادئ وحوار مباشر ("لاحظت إنك زعلان… صار شي أونلاين؟"). كما تؤكد هذه الإرشادات ضرورة وضع قواعد واضحة للاستخدام (وقت الشاشة/المنصّات/ما العمل عند الأذى)، إبقاء الأجهزة خارج غرف النوم ليلًا، وتعيين نقطة اتصال مدرسية وآلية سرّية للشكاوى وجدول متابعة وتغذية راجعة للأهل،لتتحوّل الاستجابة من ردّ متأخر إلى سياسة حماية استباقية ضد التنمّر الرّقمي.
ولفهم السؤال الأكثر إلحاحا: لماذا يمارس بعض المراهقين التنمّر الرّقمي؟ تُظهر الأدبيات أنّه ليس "شجاعة رقمية" بقدر ما هو تداخل لعوامل نفسية واجتماعية وتقنية. فالدراسة السكانية الواسعة فيArchives of General Psychiatry توضح أنّ "المتنمّر الرّقمي فقط" غالبا ما يعاني صعوبات في الضبط الانفعالي، وفرط حركة ومشكلات سلوكية ، وانخفاض السلوك الاجتماعي الإيجابي، مع سلوكيات خطرة (تدخين متكرر/سكر) وشكاوى جسدية متكررة، وشعور بعدم الأمان في المدرسة ومشكلات مع الرفاق وصعوبات عائلية؛ ما يقلب الصورة النمطية: المتنمّر ليس بالضرورة قوDا، بل قد يكون هشًّا ويستخدم الفضاء الرقمي لتفريغ اضطرابه. وعلى المستوى النظري، يشرح نموذج BGCM كيف تؤدي المجهولية (anonymity) وغياب أثر القوة الجسدية إلى تكوين مواقف إيجابية تجاه التنمّر، فتزداد احتمالية ممارسته وتكراره، خصوصًا حين يُقنع المراهق نفسه بأن الأذى "غير مرئي" أو "مزاح بلا عواقب"
ظاهرة نفسية – اجتماعية – تقنية
وتكشف دراسات الدوافع في Journal of Interpersonal Violence عبر نظرية الاستخدامات والإشباعات أن أكثر الدوافع حضورًا هي التسلية/الملل، الانتقام، الرغبة في الإيذاء، والسيطرة/الهيمنة، وترتبط بسمات مثل فك الارتباط الأخلاقي، النرجسية، العدوانية، والاندفاع الرقمي. وتضيف دراسة أخرى أن صورة الجسد السلبية وعدم الرضا عن المظهر قد يدفعان بعض المراهقين للتنمّر الرّقمي تعويضًا عن هشاشة داخلية أو هجومًا على من يذكّرهم بنقاط ضعفهم.
أما البعد الاجتماعي–التطوري فتبرزه مراجعة(A developmental approach to cyberbullying) التي ترى أن التنمّر قد يُستخدم لحماية المكانة داخل المجموعة، أو لإرضاء الرفاق، أو لتجنّب التحول إلى ضحية ضمن "ثقافة السخرية" الرائجة. ومع ذلك تبقى المنصّات جزءًا من المعادلة: فالاستخدام المفرط والإدمان يزيدان قابلية الانخراط عبر كثافة التعرّض وتبلّد الحسّ أمام العدوان وتحول القسوة إلى “لغة عادية.
لم يعد التنمّر الرّقمي خللا أخلاقيا عابرا، بل ظاهرة نفسية – اجتماعية – تقنية تتداخل فيها صدمات غير مرئية وفراغات عاطفية وهشاشة المراهقة مع سرعة التكنولوجيا وضعف الحماية. بين طفلٍ يُقصى من مجموعة دردشة فينهار بصمت، ومراهقٍ يُستدرَج إلى عنف رقمي منظّم، وأجيالٍ تتشكّل تحت ضغط المقارنة والسخرية والإقصاء، يتبدّى عالمٌ رقمي لم يعد محايدا.
التنمّر الرّقمي خطر إنساني
وقد أظهرت الدراسات أنّ آثار هذا العنف قد تصل إلى أعراض تشبه اضطراب ما بعد الصدمة، واضطرابات في صورة الجسد والأكل، وتحويل الضحية إلى متنمّر أو شريك بفعل الابتزاز، فيما تجهل أسر كثيرة ما يجري خلف الشاشات، وتلاحق السياساتُ المخاطرَ بعد وقوعها.
من هنا يفرض السؤال نفسه: هل نملك الأدوات النفسية والتربوية والقانونية التي تجعل العالم الرقمي امتدادًا آمنًا لحياة الأطفال لا ساحة صدماتهم؟ وهل تستطيع الأسرة والمدرسة أن تلحقا بسرعة التكنولوجيا، أم باتت المنصّات أقرب إلى الطفل وأقوى من مؤسسات الحماية؟ ثم ماذا لو أصبح التنمّر الرّقمي جزءا بنيويا من المستقبل الرقمي؟ عندها، كيف نربّي طفلا في عالم بلا جدران؟ هذه الأسئلة قد لا تجد إجابات سريعة، لكنها تذكّرنا بأنّ التنمّر الرّقمي خطر إنساني، وأنّ مواجهته تبدأ بإعادة تعريف التربية والوعي والمسؤولية في زمن تُعاد فيه صياغة الطفولة على إيقاع الخوارزميات.