مصطفى خليفة/ جريدة الأخبار
في المؤتمر الأول عن سوريا من بيروت، بعنوان «سوريا: المعوقات، المخاطر والفرص» حاولت صحيفة «الخندق» سحب النقاش السوري من ضجيج الاصطفافات والانفعالات، ووضعه في سياق سياسي ــ فكري أقل استعجالاً.
على امتداد يومين، ومن قلب شارع الحمرا، حاولت صحيفة «الخندق» سحب النقاش السوري من ضجيج الاصطفافات والانفعالات، ووضعه في سياق سياسي ــ فكري أقل استعجالاً. لم يكن مؤتمرها «سوريا: المعوقات، المخاطر والفرص» منصة لإنتاج خلاصات جاهزة، بقدر ما بدا تمريناً على إعادة طرح الأسئلة والتفكير فيها بحوار بين رموز اليسار واليمين، وبين الشام ولبنان، فتصدر الحديث عن الشرعية، الطائفية، الاقتصاد، والعلاقة مع الإقليم محاور المؤتمر.
في حديثه معنا، أشار رئيس تحرير «الخندق» بشار اللقيس إلى أن «مداخلات الباحثين وشخصيات من المعارضة السورية وأخرى محسوبة على النظام الجديد في دمشق عكست تباين وجهات النظر وتعقيد المشهد السوري الجديد لكن في الوقت نفسه كشفت عن نقاط يمكن للجميع الجلوس والحوار حولها».
تحت عنوان «أولويات النظام السوري الجديد ورؤيته للإقليم والنظام الدولي»، قدّم الباحث المصري أحمد مولانا ومقدم بودكاست «إحاطة» قراءة في تحولات الخطاب السياسي السوري، مركزاً على محاولات إعادة التموضع في بيئة إقليمية ودولية شديدة السيولة. قراءة سعت إلى تفكيك منطق السلطة الجديدة وحدود خياراتها، بعيداً من ثنائية التهويل أو التبرير.
أما في ما يتعلّق بالموقع السوري من التحدي الإسرائيلي، فطرح الباحث الإسلامي المختص في الشأن السوري أنس الخضر مقاربة ترى في العداء لإسرائيل ثابتاً في خطاب النظام، وإن تبدلت أشكاله وأدواته. اللافت في مداخلته لم يكن توصيف التهديد بقدر ما كان السؤال عن كيفية بناء سياسة سورية تتجاوز الشعارات والعجز، مع الإشارة إلى الدور التعبوي الذي تؤديه المؤسسات التربوية والإعلامية في إبقاء فلسطين جزءاً من البنية المعرفية الرسمية.
خلال مداخلته حول الدين والطائفة في خطاب الثورة السورية كشف الباحث المتخصص في الشأن الإسلامي عبد الرحمن الحاج عن عمق الانقسام والنظرة الطائفية للتاريخ السوري كملف شديد الحساسية، والذي فتح باب ردود متقاطعة داخل قاعة المؤتمر في مبنى «السفير»، في مشهد جسّد إلى حدّ بعيد ما سعى إليه المؤتمر: نقل السجال من تراشق إعلامي وشعبوي إلى فضاء نقاش نقدي مباشر.
أما الباحث الفلسطيني أيمن محمد، فقدم إشكالية «الإسلام السياسي السوري بين الثورة والدولة»، متوقفاً عند التناقض البنيوي بين منطق الحراك الثوري ومتطلبات بناء السلطة، وهو تناقض لا يزال حاضراً في قلب المشهد السوري.
تمكّن المؤتمر من الجمع إلى جانب الشخصيات التي تعبر عن يمين إسلامي شخصيات من المعارضة اليسارية التاريخية في سوريا كالكاتب والصحافي محمد سيد رصاص الذي حاول في مداخلته «من أي منظار نتطلّع إلى دمشق اليوم؟»، تفكيك الصور المتعددة للعاصمة السورية من مركز سلطة، ورمز دولة، إلى ساحة تقاطعات داخلية وخارجية. فيما سلط المدير السابق لمركز حرمون للدراسات حازم نهار الضوء على مسألة السلطة السورية الانتقالية، متوقفاً عند خطابها وشرعيتها وأدائها، ومفكّكاً مفهوم «الشرعية الثورية» في مرحلة لم تُحسم شروطها السياسية بعد.
في أول مؤتمر يحاول البحث في عمق المشهد السوري وتفاعلاته، كان الملف الاقتصادي حاضراً عبر مداخلة الصحافي الاقتصادي فراس القاضي الذي استعرض التحديات المتعلقة بمعيشة السوريين وهوية الاقتصاد الوطني وحجم الفاقد في الموازنة العامة منذ سقوط النظام، وعدم أهمية رفع عقوبات «قيصر» دون ربطها بعمل على استئناف الإنتاح خاصة مع ارتفاع أعداد المعامل والمصانع التي أوقفت أعمالها في حلب بظل وضع طاقي ومالي ضبابي.
الختام كان مع العلاقات اللبنانية ــ السورية، حيث عرض عبد الرحمن خوندي العوائق التي تعترض «تطبيع» هذه العلاقة، متوقفاً عند الهواجس المتبادلة، ومشدّداً على مركزية الاعتداءات الإسرائيلية المتكرّرة بوصفها تهديداً مشتركاً لا يمكن لأي من البلدين مواجهته منفرداً.
لم يحاول المؤتمر إنتاج رواية بديلة عن سوريا، أو توحيد المواقف المتباعدة، وإنما ركز على منح الفرصة لتفكيك السرديات الجاهزة، وإتاحة مساحة تتجاور فيها وجهات نظر متناقضة أحياناً. في بلد كتب تاريخه الحديث بالعنف والانقسام، يبدو مجرد الجلوس حول طاولة فعلاً سياسياً بحد ذاته.