أجرى اللقاء : د. زينب الطحان
تشكّل المنتديات الثقافية، في لبنان، إحدى أهم الساحات المدنية التي تتحرك خارج الخطابات السياسية التقليدية. هي فضاءات حرة للنقاش والحوار والإبداع، ومرآة تعكس تحولات المجتمع اللبناني وتناقضاته في آن. منذ بداياتها في بيروت والمدن اللبنانية الأخرى، وحتى في الأرياف، تؤدي هذه المنتديات دورًا رياديًا في تشكيل الوعي العام، سواء في إنتاج خطاب ثقافي نقدي يسعى إلى تجاوز الحدود الطائفية وبناء هوية وطنية جامعة أم في إعادة إنتاج الاصطفافات والانقسامات نفسها، في بعض الأحيان، حين تتحول إلى منصّات تعبّر عن انتماءات مذهبية أو حزبية مقنّعة بثوب ثقافي.
بين هذين الاتجاهين، يتبدّى السؤال الجوهري: هل استطاعت المنتديات الثقافية اللبنانية أن تكون مساحة تحرّر فكري وملتقى وطني جامع، أم أنّها تحوّلت، بفعل الضغوط السياسية والاجتماعية، إلى أداة تُعيد إنتاج الطائفية بصيغ جديدة؟
هذا ما نستطلعه في مقابلة مع مؤس "منتدى شملان" الصحافي والكاتب نبيل المقدم، والذي تنبع تجربته، من روح التاريخ الحقيقي الذي كان مكوّنًا لبلدنا لبنان قبل الفتن التي أثارتها مختلف أشكال الاستعمارات السابقة، ويقارب دوره في تشكيل الوعي الثقافي والسياسي، بوصفها فاعلًا اجتماعيًا يمتلك القدرة في التأثير، في اتجاه المصالحة وبناء الجسور، بعيدًا عن الانقسام الطائفي والاصطفاف السياسي.
نبيل المقدم، وهو مؤسس منتدى شملان الثقافي في العام 2018، صحافي لبناني ومحلل سياسي وعضو في اتحاد الكتاب اللبنانيين. عمل في عدد من الصحف، وتخصص في الصحافة الاستقصائية في: السفير والأخبار والبلد واللواء. كما كتب مقالات اجتماعية وسياسية وتميز في كتابة السيرة الذاتية. يعمل "مقدم" مراسلاً لمواقع إخبارية وصحف عربية. كما عمل مراقبًا إعلاميًا في الانتخابات النيابية في العامين 2018 و 2022 في إطار هيئة الإشراف على الانتخابات. من مؤلفاته: كتاب "وجوه وأسرار من الحرب اللبنانية"، والذي يتضمن معلومات عن الحرب اللبنانية تنشر للمرة الأولى. ويعمل حاليا على إنجاز الجزء الثاني من كتابه. .
كذلك شارك "المقدم" مع مجموعة من الإعلاميين في إصدار كتاب "رماد حي" الذي يوثق سيرة ضحايا انفجار الرابع من آب .كما شارك، أيضًا في إعداد إفلام تسجيلية توثق سيرة الجرحى الذين إصيبوا إصابات بالغة.
تأسيس المنتدى في حرم المنزل إيجابية وألفة وسط التحديات
عن فكرة تأسيس منتدى ثقافي في المنزل، والذي يقع في قرية شملان البعيدة عن بيروت نحو 25 كيلو متر في قضاء عالية الجبلي، وليس في مكان مخصص لهذه الغاية؛ يجيب "المقدم" على سؤال "موقع أوراق"؛ فيقول: "طبيعة المكان واتساعه جعلت ملائمًا جدا لهذا نوع من الأنشطة، من دون الحاجة إلى البحث عن مكان آخر. كما كان لدي دائمًا فكرة إقامة منتدى ثقافي، وقد تعززت الفكرة أكثر خلال مشاركاتي في عدد كبير من الفعاليات الثقافية. بعد انتقالي للسكن من العاصمة إلى الجبل، وجدت الفرصة مناسبة لتحقيق هذا المشروع. وكان ذلك في العام 2018. وما أن أعلنت تأسيس المنتدى حتى فوجئت بحجم الإقبال من الجمهور. ما يدل على أن المنطقة كانت عطشى إلى هذا النوع من النشاطات المنتظمة، وليست تلك التي تقام في المناسبات فقط".
بخصوص البداية، وما واجهه منتدى شملان الثقافي من تحديات؛ يؤكد الأستاذ "المقدم" :أن البداية كانت مع إقامة ندوات شهرية. إذ حرص أن تكون هذه الندوات تحاكي اهتمامات جميع شرائح المجتمع الفكرية والثقافية والاجتماعية والسياسية والانمائية والاقتصادية. وكان له محطات بازرة مع عدد من الكتّاب الذين كان له شرف استضافتهم لمناقشة أخر إصداراتهم".
أكثر التحديات حرجًا، كانت بسبب جائحة كورونا، والتي أوقفت تلك الاندفاعة، ما لبثت أن توقفت قسرًا بعد حوالي العام. إذ فرضت الجائحة على مؤسس المنتدى تعليق أنشطته إلى أجلٍ غير مسمى. يقول "المقدم" إن هذا الوضع استمر حتى العام 2022. مع بداية انحسار هذه الموجة، قرر استئناف نشاطه، ولكن فوجئ بحجم الحضور المتدني، مقارنة مع السنوات السابقة. يعزي "المقدم" السبب في ذلك؛ إلى الخوف، والذي كان ما يزال مسيطرًا على الناس من العودة إلى حياتهم الطبيعية ومعاودة الاختلاط مجددًا. هذا الواقع أجبر منتدى شملان إلى تعليق أنشطته من جديد. مع عودة الحياة إلى طبيعتها، في العام التالي، استئنف المنتدى نشاطه، وكان الإقبال أكثر من المتوقع، الأمر الذي شجع المؤسس على زيادة عدد الندوات من ندوة في الشهر إلى ندوتين، وما يزالون مستمرين وفقًا لهذا البرنامج.

كما يؤكد الأستاذ نبيل المقدم أن المنتدى يشهد، حاليًا، إقبالاً مميزًا من الجمهور. وترحيب لافت من المحاضرين في المشاركة دومًا من وقت إلى آخر.
إقامة أنشطة ثقافية في حرم المنازل، والتي تستضيف المحاضرين والجمهور، قد يكون له سلبيات تؤثر في اهتمام المثقفين عمومًا، فتبعدهم عنه. لكنّ هذا على ما يبدو غير صحيح في تجربة منتدى شملان. إذ يؤكد مؤسس المنتدى أن هناك جوًا من الألفة والارتياح يوفّرها في منزله الخاص، حيث يشعر الجميع بأنهم ضيوف أعزاء من خلال الترحيب بهم وحسن الاستقبال. ويقول: "ذلك نابع من صلب عاداتنا وتقاليدنا، نحن اللبنانيين، في الترحيب بالضيف والتعامل معه بلياقة واحترام. هذا الأمر ينعكس إيجابًا على اجواء المحاضرة؛ فيزداد النقاش وتكثر الأسئلة والأجوبة. هنا؛ أود أن اشكر زوجي العزيزة، والتي يعود إليها الفضل في توفير هذه الأجواء".
هل هناك موضوعات محددة يهتم بها المنتدى أم الأفق مفتوح لمختلف القضايا الاجتماعية والثقافية والسياسية وغيرها؟
لا يحبّذ القيّم على المنتدى حصر اهتماماته بموضوعات معينة؛ ويوضّح قائلاً: "المتابع لنشاطنا يعرف أننا منفتحون على مختلف العناوين الثقافية والسياسية والاقتصادية والفكرية والإنمائية. هذا ما جعل المنتدى مقصدًا لجميع فئات الناس من دون تمييز، على اختلاف أرائهم وتطلعاتهم. الأمر الأهم؛ هو أن أجواء المنتدى توفر تكوين الصداقات وتوطيد العلاقات الاجتماعية على المستوى الشخصي بين أشخاص لم يكونوا يعرفون بعضهم بعضًا من قبل، فأصبحوا بفضل تعارفهم في المنتدى أصدقاء أعزاء".
لكن في ظل وجود مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي إلى أي مدى هذا النوع من الأنشطة الحضورية ما يزال يحظى باهتمام الجمهور؟
يجيب "المقدم" :" على الرغم من انتشار مواقع التواصل الاجتماعي والإعلام الرقمي؛ ما تزال الأنشطة الحضورية تحظى بأهتمام واسع من الجمهور. هذا ما لمسته في المنتدى. كما أعتقد أن ذلك يعود إلى الطبيعة البشرية، والتي تفضل المناقشات الحية والمباشرة على الحوار من بعد؛ وذلك شعورًا منها بأن هذا الأمر الحقيقي يقدم لها فائدة علمية وثقافية أكثر مما تستطيع الحصول عليه بواسطة لقاءات الإنترنت. الحضور يُشعر الموجودين بالتفاعل بشكل أكبر وحقيقي، وبالقدرة على طرح أفكارهم ومقترحاتهم بطريقة أفضل، إلى جانب الإفادة من تجارب الآخرين بشكل أكثر دقة".
مقارنة بالعاصمة بيروت؛ هل من اختلاف بين حجم الحضور وطبيعة الاهتمامات بين سكان المدن وسكان الأرياف أو الحواضر البعيدة عن العاصمة؟
يعتقد مؤسس منتدى شملان أن الموضوعات التي يقدمها استطاعت استقطاب جمهور من مختلف المناطق، حيث يفاجئ، في العديد من النداوت، بحضور أشخاص أتوا من مناطق بعيدة، مثل الجنوب وبيروت والبقاع وكسروان وجبيل، وذلك شعورًا منهم أن ما يطرحه من موضوعات وإشكاليات يلامس أعمافهم الفكرية والثقافية واهتماماتهم اليومية". لكن مع ذلك، كما يؤكد ضيفنا، يبقى جمهور المنتدى الأكبر في المناطق القريبة والقرى المحيطة، وربما يكون أحد أسباب ذلك هو سهولة الوصول إلى منزله، إضافة إلى جدية المنتدى في مختلف طروحاته والقضايا التي يعالجها.
يتابع "المقدم" : من الطبيعي أن يكون هناك موضوعات ومشكلات تهمّ شريحة من الناس أكثر من غيرها، خصوصًا تلك التي لها علاقة بالإنماء والعمل البلدي، والتي قمت بطرحها أكثر من مرة على صعيد المنطقة، وليس على صعيد لبنان ككل؛ على أمل أن أقدم محاضرات أكثر شمولية في هذا المجال في الندوات القادمة".
لكن في هذا السياق، يبرز سؤال مهم؛ هل يتمكّن منتدى شملان من جمع أطياف من مختلف التيارات السياسية والطوائف اللبنانية؟
يبتسم مؤسس المنتدى؛ ويقول :" الجواب يكمن في طبيعة الموضوعات والمشكلات المطروحة، والتي لم تشكّل أبدًا تحديًا أو استفزازًا لفئة ما على حساب فئة أخرى.. لكن هذا لا يعني عدم وجود اختلاف في الرأي، وهذا حق مشروع، ولكنّه اختلاف يبقى دائمًا في إطار الحوار الحضاري الراقي.
عن مدى حضور الشباب في المنتدى، وهل يستقطبهم؟
يتأسف الصحافي والكاتب "نبيل المقدم"، بأن حضور عنصر الشباب ما يزال في ندوات المنتدى أقل من المستوى المطلوب. ذلك يعود إلى أسباب عدة، يذكرها لنا؛ وأهمها بحسب رأيه: "طغيان وسائل التواصل الاجتماعي على جانب كبير من حياتهم، الأمر الذي أضعف لديهم الأحساس بأهمية الحضور المباشر، وخلّق فيهم إحساسًا بأنّ هذا النوع من الفعاليات والنشاطات الحية لم تعدَ يشكل بالنسبة إليهم عنصرًا جاذبًا مقارنة بالثورة التي أحدثتها التكنولجيا الحديثة والذكاء الصناعي. إذ باتوا يشعرون أنهم أصبحوا يمتلكون جميع وسائل المعرفة من دون الحاجة إلى حضور هذا النوع من النشاطات. إضافة إلى ذلك؛ قد يكون هناك أمر آخر، وهو انشغالاتهم اليومية بالعمل والدراسة لوقت طويل، في ظل ظروف اقتصادية واجتماعية ضاغطة".

في الختام؛ يوجه مؤسس منتدى شملان الكاتب المرموق "نبيل المقدم" رسالة يقول فيه: أعتقد أن أهم رسالة يجب أن يحملها المنتدى، وهو يحملها، هي تعزيز الحوار الثقافي وتشجيع التفاعل بين جميع مكونات المجتمع اللبناني والإسهام في نشر الوعي والمعرفة، لما في ذلك من أهمية في القضاء على التعصب الطائفي والمذهبي.. وكذلك توفير مساحة للنقاش البناء في مختلف القضايا الفكرية والمعرفية".