نجوى الموسوي/ كاتبة وأديبة
سادت، في مجال السرد الأدبيّ، نظريّاتٌ استحضرت التاريخ في فنّ الرواية على أنه "مجال للأساطير والإيديولوجيات والتحيّز!" .. لكن النقّاد حاليًّا رصدوا تخطّي تلك النظريّات حين رفع بعض الرواة في إنتاجاتهم من شأن "مفاهيم الأصالة والمصداقية والحضور"، مع المحافظة على الجذور الحضاريّة والتراث من دون انغلاق. هنا؛ تطرح هذه المقالة سؤالًا: هل ظهرت ملامح الأصالة الإنسانية والتمسّك بالقيم في الرواية التاريخيّة العربيّة؟
للإجابة عن هذا السؤال تأتي هذه القراءة في روايةُ "حامل الطين".
جاء، في مقدمة هذه الرواية، أنها "قصّة متخيّلة، تستقي أحداثها وشخصيّاتها من أمورٍ وقعت بالفعل" (ص 11)، فالخيال صاغ توليفة من الحبكات المتلاحقة والأحداث المتسلسلة في حقبة إسلاميّة عربيّة، في عصر السلاجقة وحُكمِ ملكَ شاه ونظام الملك. من قرأ عن تلك المرحلة سابقًا رواية "ألموت" لفلاديمير بارتول، والصادرة في زمن الحداثة "المبكرة" في العام 1938، يجد فيها النفحات التشكيكيّة والأسطوريّة، أمّا "حامل الطين" فقد تناولت قلعة" ألموت" نفسها ولكن بالرجوع إلى مصادر حقيقيّة، وتميّزت برابطٍ في القصّ منذ ما قبل مئات السنين إلى الزمن المعاصر.
أوّلًا- حضور الشخصية ذات البطولة الأصيلة
بعد تطوّراتٍ هائلة شهدتها ثورات العالم المعاصر في وجه الظلم والاحتلال، أبدع الروائيون العرب في خلق التفاعل مع مفاهيم القيادة والبطولة الأصيلة التي تنعش القارئ بتبنّي قيم ومشاعر وأخلاقيات إنسانية عامة. في أجواء رواية "حامل الطين"؛ نقرأ عن قائد تاريخيّ و"أبطال" متنوّعين حدّدوا هدفهم الخيّر المُحقّ واجتازوا لأجل تحقيقه الصعوبات والصراعات. أهمهم: حسن الصبّاح المتصدّي لظلم الحاكم المرتكب لجرائم عسكرية وإعلامية وثقافية وتزييفية للحقائق، ثم "دنيا زادة" التي بدت كأنها "الدولة العميقة" المحافِظة على رخاء القلعة والحامية لأمان سكانها، ثم القادة الأساسيون مثل "الأشرف" في شخصيته النامية، ثم الحواريّتان "أبيا ورادا" الفارِسَتان المتدرّبتان لأداء مهمّات أمنية خاصّة فلاحقناهما نفسًا نفسًا حتى النهاية الصادمة.
في "حامل الطين" نرى الصبّاح قائدًا يجسّد البطولة، ليس في خطابه ومحاوراته وحسب، أيضًا في تجسيد سلوك "القدوة" لشعبه وجُنده، فهو القيميّ الذي لا ينجرّ خلف الغرائز حتى في علاقته بالأعداء، إذ يحرص على الإنذار والنصح قبل إعلان المعارك. يقول (ص69): "أنا حامي هذه الأرض ..أنا أعطيك الأمان أن تخرج من هنا إن فعلت سننساك ورجالك". كما هو العالم ذو الخبرة والحكمة في الحياة والقتال؛ يقول (ص303): "علّموا أعداءنا بأننا نخفي في جرابنا الكثير.. استغلّوا ميزات الدار، استعملوا الليل والعتمة والسرعة والخفة، لا تستطيع الجيوش الكبيرة الحراك مثل القوى الصغيرة" ، وهو أيضًا يكرّس المثال المحبوب لأبناء الشعب، يقول (ص187): "حفرت كلمات الشيخ عميقًا في العريسين..".
لا تغيب ملامحُ البطل المُضادّ، في دور "تاج الملك"، وهو الطالب للمكانة والجاه والحفاظ على سلطان مملكته وإزاحة من يخرج عليه ويعترضه، ولو استلزم ذلك الاتفاق مع العدو الخارجي، فيفضل الأشرّ على الشرّ بالنسبة إليه. لكن تاج الملك يختلف عن "الخاقنجي" البطل الميداني الذي كُلّف بصدّ الصبّاح عن الحاكم وجهز جيشًا لمحاربته، ولكنه اكتشف الحقيقة واعترف بذلك ومات مظلومًا شريفًا كريمًا في مشهد من مشاهد ذروة الأحداث. إذ يقول (ص 465): "لا أفهم بالسياسة والدين إنما أعرف المخلصين"،.. ويقول: "لدي طلب أخير من رفيق السلاح، إذًا، اهزموهم مزّقوا جيش السجستاني الخائن. اقتلوا كازلمرق اللعين".
إذًا، لقد عاد الحديث عن الشخصية المتمسّكة بالأصالة الإنسانيّة واستلهام التاريخ الصادق الذي تجاوز الإخفاقات إلى العِبَر والنظام والوحدة والرقيّ والمعيار العقليّ والانتماء والهوية. كما لوحظ تجسد هذه القضايا فعلًا في سمات القائد الفلسطيني "ظاهر العمر الزيداني"، في القرن الثامن عشر التي استحضرتها رواية "قناديل ملك الجليل" سنة 2011.
ذلك كله يخالف ما جاء به تيّار "ما بعد الحداثة" الذي وظّف التاريخ "ليطال أركان النظام الأكاديمي والثقافي والاجتماعي والسياسي المستقر. وتتناول نصوصه أو أصواته أو خطاباته: الهوية والسلطة والوطن والأخلاق والإنسان والمعنى والمنفى والذاكرة... مقوضًا منحاها التطوري الكوني والقيمي لمصلحة تعدديّة الأنساق المغلقة على نفسها بأدوات الشك غير العقلاني ويقين الرّيبيّة والمسائلة فير المبالية بجواب اليقين.."
ثانيًا- القيم الإنسانية
إنّ العبر الزاخرة بالقيم الإنسانية العليا عادت تُطرَح في الرواية، في تقنيات فنية وإبداعية أدبية. إذ "تمثّل الأدبيّة أرقى مراقي الكتابة الابداعيّة، وهي ليست الملامح الفنيّة التي تجعل من نَصٍّ ما نصًّا أدبيا فحسب؛ إنما هي القيم أو القيمة التي يصنعها الناس". في رواية "حامل الطين" تمثّلت القيم بوضوح؛ ومنها مثلًا: ارتباط الصوم بالحكمة، وفضيلة الامتناع عن الجشع، والوفاء بالعهد، والصبر على الصعوبات وما كان أكثرها في حبكات وأزمات الرواية.

في تفصيل المثال عن قيمة "الحرية"، هي تُستنتج في سياق سرديّ غير جاف؛ ففي جانبٍ معيّن تُفهم الحرية في بيان الضدّ وهو سلوك شخصيّة الوزير "تاجك" الذي ترك "كازلمزق" يختار عنه، وأصبح كما حجر الشطرنج بين يديه، يشتمه حين لا يطبق خطته، يقول (ص 275 من الرواية ): "قال كازلمرق الكلمات هذه للوزير بنبرة الشتيمة، وشتيمة من العيار الثقيل أيضًا.. إذ إن الغضب خلف كل كلمة كما السخرية كانا واضحين"، كما تبدو صفات الوزير المنقاد إلى المستشار الماكر، مجرَّدًا من حريته في صفحات 276، 419 ، 459.
في جانب آخر تحرّك تحليلات قيمة الحرية ركودَ الذهن وتبعث طموح النفس وتثير التساؤلات؛ فيقول الصبّاح كونه شخصية أساس ( ص89 من الرواية): "الحرية أن تمتلك هذا الأمر الخارق والمقدّس: الاختيار. قد تثقلك الحياة بأحمالها فترغب في الرحيل في الهرب في الانفلات، تذكّر: كلّ هذا وهمٌ. اختيارك لمعاركك الصائبة كما لأفعالك كلّها تحدّد حريتك من عدمها، قد تختار ألا تكون حرًا كما يفعل كثيرون، لا تلومنَّ أحدًا على ذلك".
إذًا، ها هي الرواية العربيّة تسترجع الشخصية الذاخرة بالقيم الأصيلة على مستوى الشخصية والمجتمع. ذلك على الرغم مما روّجه بعضُ الرواة من "تفصيلات تاريخيّة معروفة جرى دحضها وتزييفها عن عمد بهدف إظهار الإخفاقات الممكنة للتاريخ المسجّل والاحتمال المفتَرض للخطأ المقصود وغير المقصود"، ثم أغرق أولئك رواياتهم بشخصياتٍ مشهورة وجعلوها تغوص في اللامعيارية والإخفاق وبالغوا في الصور الخياليّة أو المسكوت عنها والنزِقة والمبتذلة أيضًا، وربما نلمح صورًا من ذلك في فصول من "فرقدان" ليوسف زيدان، وفي "رحلة الدم" لابراهيم عيسى.
ثالثًا- العودة إلى الكلام في السرديات الكبرى
"السرديات الكبرى" مصطلح أثار جدلًا في ترجمته، فقد فسّره البعض بالنظريات الإنسانيّة الكبرى لمسيرة التاريخ، واستخدم البعض الآخر تعبير السرديّات الكبرى أو الخلفية للدلالة على المرجعية الفكرية التي تسهم في صياغة تصوّرات العالم عند أي جماعة. "هذه السرديّات لا تُفهم على أنها قصص بسيطة، بل هي أطر فكريّة كبرى تُشَرعِنُ المعارف والممارسات، وتقدّم صورة متماسكة عن الذات والآخر، فتتحوّل إلى بديهيّات ثقافية يصعب مساءلتها أو التشكيك فيها".
يشهد النقاد أن بعض الروايات العربية، حاليّا، قد أعادت السرديات الكبرى، وتجاهلت "التشكيك بمدى واقعيةِ ما يتمّ تداوله ثقافيًّا بوصفه حقائق مسلّم بها.. والتقليل من شأن مفاهيم مثل الأصالة والمصداقية.." .

ما فعلته رواية "حامل الطين" أنها أعادت الحضور للحقائق المسلّم بها وللأصالة والمصداقية والرؤى الكبرى، بل وقدّمت المرجعية الفكرية بصورة غير "شموليّة" أو "مهيمنة"، فالبطل هنا أساسًا ثائرٌ على نظام الحُكم المهيمن؛ لأنه ظالم وفاسد بحسب ما أوضح للثوار معه.
لقد قدّمت "حامل الطين" بنجاح بعضًا من المقولات الفكرية الكبرى التي لا تقبل التلاشي والتجزيء؛ ومنها مثلًا، "لكلّ ظلم عقاب"، وتتبدّى هذه السرديّة من خلال الحوار أحيانًا؛ فيقول (ص 244) على لسان الصبّاح: "لقد خلق ربُّنا العظيم العادل هذا الكون وأرسى قوانينَه وقواعده ووضع الميزان بكفّتيه العادلتين، في مقابل كلّ ظلم هناك عدل وعقاب..إن فعل المقاومة أصيل بديهي منطقي عفوي بدائي حتى، أن تقاوم يعني أنك فطري..على أحد أن يحمل راية الميزان والتوازن الإلهي مهما كلّفه الأمر، مهما غلت التضحيات وعلت في النهاية لا شيء بلا مقابل أو ثمن". صدّقت شخصية الصبّاح المبدأ بالسلوك العملي حين أمر القائد بالإعداد والاستعداد لقتال النَّفس الأخير وجهّز نفسه لذلك.
تتبدّى سرديّة العدل أيضًا في فعل شخصيّة السيدة "دنيا زادة" وإنجازاتها؛ فهي كما يقول الراوي (ص 104):"خَلقت الانسجامَ والتناغمَ كما أرادته كل في موضعه"، وهذا من أهم مصاديق العدل العقلية المنطقية، فليس التناغم هو المساواة على الرغم من اختلاف القدرات والطاقات كما تقدّم الرواية. يمكن القول إن رواية "حامل الطين" لم تستحضر التاريخ للاعتبار وحسب، إنما شخصياتها راحوا بأنفسهم أيضًا يستحضرون التاريخ للتعلّم منه.. كما في ص 312 عن الكلام عن داريوش الثالث، وص 126 في تذكّر أهمية معركة ملاذكرد ودروسها، وكما في بيان استخدام المنجنيق تاريخيّا في ص 374.
من جانب آخر؛ استطاعت "حامل الطين" بيان صورٍ عن أسس حضاريّة كبرى، فقدّمتها أمثولةً واضحةً لاستقرار المنظومة الفكرية المبنية على "ثوابت إنسانية كبرى عامة". هي حافلة بمعاني النهوض والتطوّر والعطاء الصالحة للأمم في كلّ زمان ومكان. تبدّت تلك النواحي من خلال الفقرات الحافلة بالوصف الدقيق ضمن عناوين تشكّل أبوابًا ومساراتٍ كبرى ومنها: فكرة تقديس طلب العلم وفكرة احترام الآخر عبر اكتشاف لغات الشعوب التاريخية، مثل الآذرية والفارسية والبشتونية (ص35)، وفكرة بيان أهمية التبادل بين الحضارات والبلدان، حين عرضت الرواية الإفادة من تجارب أكثر من تسع حضارات مختلفة من الهند والصين واليابان وأفريقيا وروما وبيزنطة اليونان وأصفهان وبغداد.. وفكرة الانفتاح الجغرافي (ص112) والإفادة من الموارد البشرية وغيرها (كما في الصفحات 32 حتى 34).
في هذا كلّه؛ أدّت فصول "حامل الطين" وظيفة الرواية بالمعنى الإبداعي/الجمالي، فهي تميّزت عن الفنون الأخرى بقدرتها على استيعاب جميع أنواع المعرفة.. كما تميزت بظهور "إمكاناتها غير المحدودة في تقديم المعرفة الإنسانية بأسلوب سرديّ جذاّب ومحبوب في الفطرة الإنسانية".

ختامًا
حضر التاريخ، في رواية "حامل الطين"، لأجل تجلّي العِبر والقيم العليا ذات الأصالة الإنسانية وأطلّت السرديّات الكبرى فاعلةً مقنعةً، فعسى أن تكون هذه الرواية حلقة من حلقات ملامح تجاوز "ما بعد الحداثة" إلى حداثة جديدة تقرأ التاريخ لاستلهام الحقيقة في الحاضر والمستقبل؛ أي مثل "قناديل ملك الجليل" للأديب إبراهيم نصر الله، على سبيل المثال لا الحصر.
سردت "حامل الطين" مفاهيم كُلية بأسلوب غير تقليدي، واستطاعت جذب الاهتمام وإثارة التشويق، كما أثارت الفضول والغرابة والدهشة في عشرات الأزمات ضمن الحبكات المتعدّدة، وفي التساؤلات الفلسفيّة والحفر عميقًا، وربما تُكتب لذلك أبحاثٌ قادمة.