ذلك أنّ "مهرجان طرابلس للأفلام" (شماليّ لبنان) يعرض "يلّا غزّة" (2023)، للفرنسي رولان نورييه، في افتتاح دورته الـ11 (19 ـ 25 سبتمبر/أيلول 2024)، بعد حفلٍ يشهد إلقاء كلمات، وتقديم أعضاء لجنتي التحكيم (أفلام قصيرة وأخرى طويلة)، وتكريم إميل شاهين شخصيةً سينمائيةً لبنانية. فالفيلم، المعروض في صالات فرنسية (أسابيع عدّة بدءًا من 8 نوفمبر/تشرين الثاني 2023)، توثيقٌ لأسوأ معاناة بشرية يعيشها أناسٌ في حيّز جغرافي ضيّق، يحاصره وحشٌ غير متردّد البتّة عن ابتكار أشكالٍ مختلفة من قتلٍ يُصبح إبادة. أهمية هذا أنّ العرض التجاري الفرنسي لاحقٌ على بدء حرب الإبادة تلك، المندلعة ردًّا على "طوفان الأقصى" (7 أكتوبر/تشرين الأول 2023)؛ وأنّ الفيلم مُنجَز قبل بدء الحرب، لكنّه كاشفٌ بصريّ قاسٍ لأفعال إسرائيلية مستمرّة منذ سنين، ستكون تلك الحرب ذروتها.
مع أنّه غير سينمائيّ، بمفردات اللغة والجماليات والتفنّن، لكونه توثيقًا تلفزيونيًا (وهذا مطلوبٌ أيضًا، فالتقاط الواقع ونقله إلى العالم أساسيّ ومهمّ وضروريّ)؛ يمتلك "يلّا غزّة" خصوصيةً بأبعاد عدّة: فإلى جانب التوثيق الدقيق ليوميات فلسطينية في حصار إسرائيلي طويل، هناك تفاصيل يكشفها ناشطون وناشطات، فلسطينيون وأجانب وبينهم/بينهنّ يهود وإسرائيليون، تُبيّن وحشية محتلّ، وتفضح وقاحة الانفضاض عن إحدى أسوأ الكوارث البشرية في التاريخ الحديث على الأقلّ. والأجمل في هذا، رغم قسوة وعنفٍ، ماثلٌ في جهدٍ فلسطيني، يكاد يكون استثنائيًا، في عيشٍ يحترم إنسانية الفرد، ويدعمه بوسائل مختلفة، بينها التعليم والرقص، وإنْ يكن الرقص بين أنقاضٍ وخراب، وإنْ يحصل التعلّم في مناخٍ عنفيّ ضاغط.
شهادات ناشطين وناشطات، عرب وأجانب (وبعض الأجانب ناشطٌ في القطاع نفسه رغم الحصار والموانع)، كفيلةٌ بتبيان حجم الإبادة المزمنة. فالإبادة حاصلة منذ زمنٍ، والحصار، بكل مُسبّباته من قتلٍ وانغلاقٍ وعزلةٍ وقهرٍ وأمراضٍ وانعدام أفق ونجاة ومنع حياة بشرية عادية، يشتدّ نتيجةَ فوز "حماس" في انتخابات عام 2006، ويعنف في كلّ حربٍ، ويكشف وحشية التنين المتفلّت من كلّ قيد ومحاسبة.
قولٌ في الطبّ والعلم يؤكّد فجيعة الإبادة السابقة على "طوفان الأقصى" (يتعمّد كل جندي إسرائيلي إصابة ركبة قدم الفلسطيني، لبترها). تحليلٌ، يعود إلى التاريخ ويرتبط بالحاضر، يفضح ما يسعى إليه الوحش الإسرائيلي منذ تأسيسه كيانه على أرضٍ محتلّة (15 مايو/أيار 1948)، بل منذ ما قبل النكبة. أفراد/أبناء وبنات غزّة يقولون عيشًا يوميًا بلغة بسيطة وهادئة، رغم دمع مخفيّ، وقهر يعتصره غضبٌ، مع أنّ الظاهر إصرارٌ على متابعة ومواجهة وعدم خضوع. اللغات العربية والفرنسية والإنكليزية حاضرةٌ، ونَفَسٌ خطابيّ يتسلّل أحيانًا قليلة من أقوالٍ أخرى، وهذا نابعٌ من وجعٍ غير محتَمل.
إزاء شهادة توثّق جُرمًا إسرائيليًا، تنتفي كلّ حاجةٍ إلى كتابةٍ نقدية، تُفكّك فيلمًا وتناقشه، فنيًا وبصريًا وجماليًا. "يلّا غزّة" وثيقةٌ بصرية، واضحٌ مضمونها الذي يؤكّده مُطّلعون ومُطّلعات على هول الحاصل. عرضه في باريس بعد شهرٍ على بداية حرب غزّة لحظةٌ غير عابرة، رغم أنّ المُشاهدة غير كثيرة. افتتاحه دورة جديدة لمهرجان سينمائي لبناني، ولبنان يتعرّض لأفعال جُرميّة إسرائيلية شبه يومية، دليلٌ على أنّ هناك التزامًا أخلاقيًا إزاء جُرمٍ مرفوض، وأنّ السينما قادرةٌ، بطريقة ما، على نقل وقائع حيّة.
في "يلّا غزّة"، يُقال واقعٌ بلغةٍ مبسّطة. وحشية الإسرائيلي غير محتاجة إلى فذلكات خطابية، فواقعيّتها تتفوّق على الخيال، وآثارها محفورة في أجسادٍ وعمارة وأنماط عيش. لكنّ الاستخدام الكثير للموسيقى (مع أنّ جزءًا أساسيًا من الوثيقة البصرية هذه مرتبطٌ بشبابٍ يرقصون بين الأنقاض) مزعج غالبًا، فالواقع نفسه غير محتاج إلى تأثيراتٍ موسيقية، لما فيه (الواقع) من قسوةٍ تؤثّر بقوّة.