في اليوم الثالث من النزوح إلى مدارس بيروت، أصبح الوضع أكثر استقراراً، أقلّه على الصعيد النفسي. الجميع يعرف مكانه. المسؤولون عن مراكز الإيواء خلفَ مكاتبهم. أغلب الأهالي في غرفهم، والأبناء يملأون الملاعب.يركض الأطفال في الملاعب هناك بلا توقّف. للمرة الأولى لا ناظر بينهم يعاقبهم، ولا غدر جوياً يتربّص بهم بخبث. يركضون فاترين، بلا فرحٍ أو حزن، هرباً من واقعٍ يهدد مستقبلهم قبل الحاضر، وتعويضاً عن «فرص» حُرموا منها قسراً.
لم يخلُ المشهد من أطفالٍ أكثرَ وعياً، وازنوا بين نشاطاتهم مع الرفاق وبين متطلّبات الصفوف والقاعات التي تحوّلت إلى منازل صغيرة تجمع الأقارب. عينٌ لهم على «اللقّيطة» وأخرى على البوابة. ليسوا بانتظار جرس الخروج، بل «فرج» من نوعٍ آخر زوّدَ نضجهم سنينَ. يترقّبون سيّارات المساعدات، مستذكرين ما لقّنهم أهلهم من المستلزمات الناقصة، توازياً مع لهفتهم إلى بوادر ترفيهية تكررت في اليومين الماضيين.
الأطفال يتصدّرون المشهد في المدارس التي بُنيت أساساً لتنميتهم. هذه النقطة لم تغب عن مسؤولي مركز الإيواء في مدرسة «ليسيه عبد القادر»، حيث أكّدت إحداهنَّ لـ«الأخبار» قيام بعض الأفراد والجماعات/جمعيات بنشاطات ترفيهية مختلفة للحفاظ على الصحة النفسية للأطفال، مع التركيز على الرسم وتوزيع الألعاب، كما فعلت أمس جمعية كشّافة «المشاريع».
بعيداً من الأطفال، يظهر جلياً الاستقرار بين الأهالي أيضاً بدرجة أكبر عن مساء الإثنين عندما فتحت المدرسة أبوابها، لكنّ النقص في الحاجات لا يزال كبيراً. وبحسب المتحدّثة، انخفضَ العدد الإجمالي للنازحين داخل «ليسيه عبد القادر» بشكل بسيط مقارنةً بيوم الثلاثاء عندما بلغت السعة الاستيعابية القصوى للمدرسة بملامستها الألف شخص، أصبح العدد التقريبي حتى ظهر أمس بين 850 و900 شخص جاؤوا بأغلبهم من الجنوب وبدرجة أقل من الضاحية الجنوبية، ما يجعل «ليسيه عبد القادر» إحدى أكثر مدارس بيروت احتواء للنازحين. وأوضحت المسؤولة أن كل عائلة تسكن في غرفة ويبلغ عدد الغرف المأهولة 128، تختلف سعتها باختلاف أحجامها، إذ يضم بعضها 6/7 أشخاص وأخرى بين 10 و20 شخصاً، مع تأكيدها ترقبَ أعداد أكبر، لكن ذلك لا يعني افتراش الملاعب «نظراً إلى عدم جاهزيتها».
أبرز التحديات وفق مسؤولة أخرى هو قلّة «الفرش» المجهّزة للنوم بالدرجة الأولى. ورغم قدرة المركز على تأمين فرش للأُسر الصغيرة، إلا أن العائلات الكبيرة تحصل على 10 فرش تقريباً لكل 20 شخصاً، ما يجعل البعض يضطر إلى تقاسم الفرشة الواحدة أو حتى النوم على الشراشف والبطانيات. بالإضافة إلى الفرش، أكّدت المتحدّثة حاجتهم إلى الأدوية، خصوصاً أدوية الضغط والسكري والأعصاب، و«بانادول» الأطفال والحليب (درجة 1و2) والحليب المخصّص للإمساك والحفاضات...
وهناك أيضاً تحديات أخرى تتعلق بالأطفال، إذ إن في المركز رضيعاً عمره 12 يوماً فقط وتوأماً بعمر 3 أشهر، إضافةً إلى بعض الحالات التي تستوجب عناية خاصة، من بينها طفلة بحاجة إلى خبز ««غلوتين فري». في المقابل، هناك نقص آخر يأتي في خانة الحاجات «الكمالية»، مثل الغاز المُجهّز لتحضير الشاي والقهوة، ما جعل عدداً من النازحين يتوجّهون إلى محل «كافيه» مجاور للمدرسة، انفجرت ماكينة «الإكسبريس» فيه بسبب شدة الضغط عليها.
لا تزال قلّة الفرش والبطانيات أبرز المشاكل في مراكز الإيواء
وبحسب إحدى مسؤولات الإشراف وتيسير أمور النازحين داخل المدرسة، يتم تسلّم المعونات عبر مبادرات فردية وجماعية عديدة، ومن أحزابٍ مختلفة، في مقدّمها حزب الله وحركة أمل اللذان يؤمّنان 3 وجبات يومية إضافة إلى فرش، وأدوية، وحليب، ومستلزمات أخرى، فيما وكّلت إدارة المدرسة عناصر كشّافة بفتح وإغلاق الصفوف. ولفتت المسؤولة إلى نُدرة حضور الدولة وعدم وجود أثر للهيئة العليا للإغاثة أو لجنة الطوارئ، باستثناء ربما سيارة للصليب الأحمر، كانت حاضرة أمس، عملت على استقدام قابلة قانونية وطبيب صحة عامة وطبيب أطفال لفحص بعض النازحين ومحاولة تأمين العلاج اللازم لهم. ولفتت إلى أن الحاجات لا تقتصر على نزلاء المدرسة، بل تنسحب على البيوت والمدارس المجاورة التي تؤوي نازحين أيضاً.
الوضع كان مشابهاً تقريباً في مدرسة «الحريري» التي فتحت أبوابها مساء الثلاثاء، وضمّت صفوفها وقاعاتها قرابة 300 نازح من 50 عائلة بحسب مسؤول في المركز. ورغم أن عدد النازحين في المدرسة هو ثلث العدد الموجود في «عبد القادر»، إلا أن النقص كبير أيضاً خصوصاً على صعيد الفرش (تمّ تأمين 200 فرشة الأربعاء، لم تكن كافية لتلبية جميع النازحين)، والحرامات والمخدات، والأدوية، والطعام، والمازوت، والمياه، وأدوات التنظيف، والحفاضات (الخاصة بكبار السن تحديداً).
وأشار إلى أن الدولة غائبة تماماً «وحتى الجيش حضر مرة واحدة واختفى»، في مقابل حضور جيد للجمعيات والأفراد. وأكّد المسؤول أن حركة أمل وحزب الله هما الأكثر حضوراً ومساهمةً، وأن الحزب يحاول يومياً تأمين الحاجات الأساسية بالإضافة إلى خدمات أخرى (سنكرية/أشغال كهرباء...)، وفي حال أي طارئ، يكونون حاضرين كما حدث الأربعاء عندما كسرَ أحد النازحين قدمه وتمّ نقله فوراً إلى مستشفى مع التكفّل بعلاجه، بالإضافة إلى حالات مرضية أخرى...
في المحصّلة، يبدو الوضع أكثر استقراراً ضمن مدارس بيروت مقارنةً باليوم الأول، لكنّ النقص في الاحتياجات الأساسية والخدمات يبقى موجوداً، فيما حضور الدولة شبه معدوم.