منذ شهر تقريبًا أكمل سماحة السّيد حسن نصرالله عامه الرابع والستين؛ منذ البدايات حين كان في أحياء "برج حمود" لمعت في عينيه روح ثورة متمرّدة، قائدًا على رفاقه.. عاشقًا في ريعان شبابه لهامّة الامام السّيد موسى الصدر عظيمًا من عظماء الأمّة؛ وحركيًا نشطًا في حركة المحرومين والمستضعفين.. وأمينًا عامًا فذًا على مدى ثلاثين عامًا لحزب الله.. ليصبح قائدًا عظيمًا من عظماء الأمّة..
رجل ولا كلّ الرجال؛ هكذا يقولون عندما تفقد أمّة ما عظيمًا من عظمائها..ولكنّ عظيمنا الذي فقدناه نحن ليس مثل أولئك العظماء كلّهم.. ويقولون كان رجلًا في أمّة؛ عندما تفقد أمّة ما مرجعًا من مرجعياتها الأولى أو قائدًا من قادتها..
عظيمنا؛ حفيد رسول الأمّة (ص)، عظيمنا حفيد ذاك المظلوم في كربلاء يوم قال: "هيهات منا الذّلة".. فدفع ثمن صموده على مبادئه من دون تهاون أو خوف؛ فانتصر الدّم على السّيف؛ وحفر وعيًا عميقًا حتى حافظ على خط النبوة في الأمّة.. كلّ دم شريف يُبذل في سبيل إحياء الأمّة هو انتصار للدم على السّيف.. فأي معنى عميق لهذه العبارة، والتي ختم بها عظيمنا خطابه الأخير..؟
قال ذات يوم الإمام الخميني الراحل (قده):" اقتلونا؛ فإن شعبنا سيعي أكثر فأكثر"؛ هي معادلة منبثقة تمامًا من روح تلك العبارة "الدّم ينتصر على السّيف"؛ لا يمكن أن يفهمها العدو "الإسرائيلي" ومعه الغرب كلّه .. دومًا كانت الدّماء التي تُبذل لحماية خطّ النبوة في الأمّة ولاّدة نحو المزيد من الإصرار لإكمال الدّرب؛ حتى لحظتنا الراهنة.. حين صدح صوت الحسين مجددًا في حرب العام 2006، وقال لهم: "تريدونها حربًا مفتوحة؟ فلتكن الحرب المفتوحة، أنتم لا تعرفون من تقاتلون..أنتم تقاتلون أبناء عليّ والحسن والحسين ..".. أو ليس هو الخطاب نفسه في يوم عاشوراء، حين خاطب بطل كربلاء القوم: والله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم، ولا في غيركم.. لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل، ولا أفرّ فرار العبيد "..؟
اليوم، تتجدد ملحمة عاشوراء، مع فارق أنّ الدّم ينتصر على السّيف، ليس انتصارًا معنويًا ووعيًا ناهضًا فحسب؛ إنما انتصار عسكري وميداني وحقيقي، والذي بدأ منذ عهد السّيد عباس الموسوي القائد السّيد الشهيد الأول حين قال كلمته الشهيرة "إسرائيل سقطت".. وكان يدرك معنى هذا القول في أنّ دماء شهدائنا عظمائنا مع بزوغ فجر المقاومة مع أول قطرة من دم الشيخ راغب حرب هي التي ستسقط "إسرائيل".. قادتنا هؤلاء كان لديهم الفطرة الإداريّة؛ فلا يمكن لأي عالم وفيلسوف أن يكون مقتدرًا، ما لم يظفر بفن الإدارة؛ والذي يتأتى من التعليم والتجربة؛ لذلك تجد القادة في أمتنا الإسلاميّة تميّزوا بفلسفة الإدارة والحكمة والعمل..في نموذج سيدنا عظيمنا الفقيد، اليوم؛ مثل هذا الوجود الرباني للسلالة الطاهرة الممتدة من خطي النبوة والإمامّة.. هو فيلسوف بالمعنى الحركة التطبيقيّة التي تدير شؤون الأمّة نحو النهوض والانتصار..
في عهد السّيد نصرالله ارتفع صوت الحقّ المظلوم أكثر، كان النهوض الثاني مع انتصار الثورة الإسلاميّة بنموذج الامام السّيد الخميني (قده)، والانتصار الثالث في المحيط العربي والاسلامي كان مع سماحة الأمين على الدّماء، حين أظهرت معركة الحرب في العام 2006 انتصارًا إلهيًا للحقّ المظلوم في كربلاء..
السّيد نصرالله، بنى عهدًا للمسلمين عمومًا، من العزّة والشّرف والكرامة والانتصارات، السّيد نصر الله أنشأ أجيالاً عقائديين ملتزمين بفلسفة الحقّ الناطق في الرؤية للحياة والدنيا ومعانيها في كلّ ممارساتها وأشكالها..
اليوم؛ استشهد الحسين؛ حسين العصر، كما نسمّيه، والذي صنع صوته وعيًا جديدًا للأمّة وصوّب بوصلتها نحو عدوها الحقيقي، وكشف زيف ادعاءات الرجعية العربيّة المتخاذلة والذليلة أمام عدوّ مذ عهده الأول وهو قاتل الأنبياء والرسل وخلفائهم في كلّ أصقاع الأرض؛ لذلك تواطؤوا على قتله مع عدوّ الأمّة، وصرّح أحدهم أنهم اغتالوه بعدما تأكدوا أنه لن يقبل بعودة المستوطنين إلى الشمال قبل وقف العدوان على أهل قطاع غزة..
كعادتهم غدّارون يجبنون عن المواجهة في الميدان، يغتالون صوت الحقّ الصادح.. سيدنا عظيمنا قالها مثلما قالها قبله سيده الحسين "هيهات منّا الذّلة"، فكان دمه المقدس هو الثمن.. سيدنا عاش عملاقًا كبيرًا ومات عملاقًا كبيرًا.. وهيهات منّا الذّلة..
فيا سيدي نصرالله: "إلى اللّقاء يوم انتصار الدّم على السّيف" انتصارًا ميدانيًا حقيقيًا هذه المرة غير كلّ المرات ..عبارتك التي ختمت بها خطابك الأخير..
أيها الشهيد العملاق ستبني دماؤك ثورات حقيقية تستنهض غيرة الشرفاء والأحرار في هذه الأمّة ليبقى صوت الحقّ الناطق ناطقَا عاليَا يصنع المعجزات ليعيد لها مجدها الغابر وكلمتها العليا وحضارتها الفذة.. فإلى اللّقاء يوم اللّقاء في يوم يأخذ الله لنا فيه بثأرك من كلّ من هدر دمك الطاهر يا عنفوان الأمّة ويا ضميرها الحيّ .. أجيالنا الصغار اليوم يعاهدونك بأنّ دمك سيصنع مجد الأمّة مجددًا.. فإلى اللّقاء في ذلك اليوم الآتي حتمًا.. فالشهيد هو المخلوق الوحيد الذي يولد ولا يموت..فكيف لو كان عظيمًا في مسيرته وعطائه ودمائه!..