استشهدت الصحافية الفلسطينية التي نقلت معاناة شعبها من داخل القطاع في غارة استهدفت منزلها الواقع في دير البلح. طوال مسيرتها، أسهمت في رفع أصوات الفلسطينيين العاديين وعكس نضالهم وصمودهم
تحدّثت لغة الغرب، علّ هذا الأمر يلفت نظر شعوب وحكومات. حكت عن المجزرة المستمرة في قطاع غزة منذ سنة كاملة، لكنّ النتيجة كانت أن استهدفها العدو. إذ إنّ الصحافية الفلسطينية وفاء العديني، والتي نقلت معاناة شعبها من داخل القطاع، استشهدت هي وزوجها، في غارة على منزلهما الواقع في دير البلح، يوم 30 أيلول (سبتمبر).في بداية الحرب، وتحديدًا في 16 تشرين الأول (أكتوبر) 2023، ظهرت العديني على قناة TalkTV البريطانية، مع جوليا هارتلي بروير، والتي اشتهرت في العام الأخير بعنصريتها وفوقيّتها على العرب، وعدائيتها لأي ضيف يتحدّى السردية الإسرائيلية.
في بداية الحلقة، دعت بروير أولًا المتحدث العسكري الإسرائيلي بيتر ليرنر، والذي قدم سلسلة من الادعاءات ليسوّغ المجازر الإسرائيلية ردًا على «طوفان الأقصى». قبلت بروير استخدامه لكلمة «مذبحة» لوصف عملية «حماس» في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 ضد "إسرائيل" من دون مشكلة. مع ذلك، عندما ظهرت العديني بعده، تحوّل سلوك هارتلي بروير، من الاحترام إلى الاشمئزاز الواضح.
عندما وصفت العديني الهجمات الإسرائيلية عبر غزة بأنها «مجازر»، قاطعتها هارتلي بروير بسرعة، متسائلة عن سبب استخدامها لهذا المصطلح، وسخرت من هذا الوصف. وراحت بروير تبرّر قصف القوات الإسرائيلية للقطاع بشكلٍ وحشي، وقالت إنّه أصدر تعليمات للمدنيين بالانتقال إلى جنوب غزة «حتى يتمكنوا من التعامل مع مقاتلي حماس». ثم ضغطت على العديني، سائلةً إياها عن سبب عدم مغادرتها منزلها في مدينة غزة، فردت العديني بسؤال: «لماذا يجب أن أغادر؟ هذا وطني. إذا طلب منك أحدهم المغادرة، فهل ستتركين منزلك؟». أجابت بروير باستخفاف: «إذا قال أحدهم إنه سيقصفني وعائلتي حتى الموت، كما تقولين «مذبحة»،
إذن نعم، سأغادر». طوال المقابلة، حاولت العديني نقل الرواية الغزاوية، وحين أصرّت على ذلك، قامت بروير بإنهاء المقابلة. وضعت العديني في موقع المدان، كأنّها هي التي تعرّض حياة عائلتها للخطر، وليس الكيان المشوّه الذي قرّر إبادة شعب بكامله، بدعمٍ مطلق من الغرب، على الصعد كافةً، والإعلام أحد أبرز أسلحته.
بعد هذا الظهور، تلقّت العديني وعائلتها تهديدات مباشرة من القوات الإسرائيلية. إذ وصلتها مكالمات من أفراد تظاهروا بأنهم أعضاء في منظمات الإغاثة الإنسانية، مستخدمين أرقامًا أجنبية، ليستفسروا عن عدد أفراد الأسرة، في منزلها في مدينة غزة في منطقة الرمال. يومها، شكّت العديني في هوية المتصلين، وعرفت أنّهم من القوات الإسرائيلية. وعندما فشلت الأخيرة في أخذ المعلومات التي تريد، بدأت تهدّد الصحافية بشكلٍ مباشر. التزمت العديني الصمت لمدة، واضطرت إلى إخلاء منزلها في مدينة غزة.
في مقابلةٍ لها، قالت العديني إنّ «الإعلاميّة قَتلتها»، واصفةً شعورها العميق بعدم الاحترام والتهميش الذي شعرت به في أثناء المقابلة، وأضافت: «أنا محبطة لأنني لم أحظَ قط بفرصة التعبير عن موقفي بالكامل. لقد قاطعتني، فقط لتنهي المحادثة فجأة قائلة: ليس لدينا الكثير من الوقت».
عملت العديني في Palestine Chronicle وMiddle East Monitor، وأسّست مجموعة «16 أكتوبر» الإعلامية، وكرّست الكثير من وقتها لتثقيف الطلاب وتوجيه المهنيين الإعلاميين الشباب في غزة. بدأ المشروع عام 2009، لتدريب خريجي الأدب الإنكليزي على مخاطبة الغرب، وكبر ليضمّ خمسة أقسام. إلى جانب الدورات، هناك التصميم، والمونتاج، وصناعة المحتوى، والمراسلون لصنع التقارير المرئية.
برزت العديني أثناء تغطيتها «مسيرة العودة الكبرى» بين 2018 و2019، حيث وثّقت الأحداث، وسلّطت الضوء على السياق التاريخي وراء حركة الاحتجاج الجماهيرية السلمية. المسيرة استهدفها «جيش» الاحتلال بشكل مباشر، وقتل عمدًا النساء والأطفال والصحافيين وذوي الاحتياجات الخاصة والعاملين في المجال الطبي وكبار السنّ بحسب تقرير للأمم المتحدة، ما أسفر عن استشهاد المئات وإصابة عشرات الآلاف. خلال عملها الصحافي، أسهمت العديني في رفع أصوات الفلسطينيين العاديين، وعكس نضالهم وصمودهم، والمرونة الجماعية للشعب الفلسطيني.
كانت تسرد روايات الناس، ونجحت في إعلاء الأصوات الفلسطينية، التي تعكس روح الشعب الفلسطيني، وتحدّيه للظلم، وسعيه إلى الحرية، وشجاعته في القول والفعل. في عداد الموت، العديني هي الصحافية الرقم 174 التي قتلتها "إسرائيل". وقبل استشهادها، خسرت الكثير من أصدقائها، وزملائها، وأفراد من عائلتها. وكان الصحافيون هدفًا لإسرائيل خلال الحرب، فهم بداية فلسطينيون، وثانيًا صحافيون، يمتلكون الأدوات اللازمة لنقل الرواية الفلسطينية. قتلُهم كان سهلًا لإسرائيل، لأنّ جل ما تلقاه هو بيانات استنكار من منظمات حقوق الإنسان، ودعوات لوقف التعرض للصحافيين، فيما تعتبر إسرائيل الصحافيين جزءًا من المقاومة الفلسطينية، وقتلهم «مسوّغ».
عادة، يقابل قتل الصحافيين بانتقادات واحتجاجات شديدة، خصوصًا داخل الجسم الصحافي ونقاباتهم وجمعياتهم المختلفة. لكن في الإعلام الغربي صمت غريب، فيما زملاؤهم يُقتلون بشكلٍ يومي، في نوع من أرستقراطية صحافية، تجعل من هم خارج حدود أوروبا والولايات المتحدة، صحافيين بدرجاتٍ أقل.
إلى جانب قتل الصحافيين الفلسطينيين، تمنع "إسرائيل" الصحافيين الأجانب من الدخول إلى القطاع لتغطية الحرب، ما ترك المراسلين المحليين في الغالب ليشهدوا بأنفسهم، بينما يعانون أيضًا من الدمار وغياب الأمن بسبب الحرب. هذا تلاعب فظ وفاقع بالشهود على الحدث، وخطوة استباقية للسيطرة على السرد حول الإبادة الجماعية في غزة.
تشكّل العديني كل ما لا تريده "إسرائيل": امرأة قوية، تملك صوتًا وتتقن لغة الغرب، وتعلم كيف تتوجه إليه، عملت على نقل هذه الخبرة إلى أبناء غزة. هذه الأصوات مرفوضة من قبل العدو، وبالنسبة إليه هي تهديد يجب القضاء عليه، وكان قصف منزل العديني، أسهل ما يمكن أن يقوم به كيان مجرم. فعوض مقابلة الحجة بالحجة، تلجأ "إسرائيل" للقتل والتوحش، لتفرض وجودها وصوتها بقوة الموت.