أوراق إعلامية

إعلام الغرب الجماعي شريك في إبادتنا: BBC وأخواتها وجه الاستعمار العاري

post-img

أثارت التقارير الأخيرة التي نشرتها هيئة الإذاعة البريطانية «بي. بي. سي» سخطًا عارمًا، بعدما خرقت الأخلاقيات والقواعد المهنية الموضوعية، بعد زيارة فريقها للقرى اللبنانية الحدودية برفقة قوات الاحتلال الإسرائيلي، ما يُعد انتهاكًا للسيادة اللبنانية. في خضم حرب الإبادة المستمرة على فلسطين والمتصاعدة في لبنان، يبرز دور الإعلام الغربي بمثابة شريك ومتواطئ في الحرب، يقدم صورة مشوّهة تخدم مصالح الاحتلال وتبرر جرائمه بحق المدنيين. ما يظهر بوضوح في التغطية الإعلامية لجهات مثل «بي. بي. سي» وغيرها هو محاولة لصياغة الروايات وفقًا لأجندات تتماهى مع أهداف الكيان الدعائية، على حساب الدماء والدمار والتهجير. وليكن الأمر واضحًا، ليست هذه التغطيات مجرد أخطاء عرضية، بل جزء من «نمط ممنهج» يستهدف تشويه صورة الفلسطينيين والمقاومة اللبنانية، وتقويض شرعيتها في الوعي العام الغربي والعالمي

يوم الأحد الماضي، اصطحبت قوات الاحتلال الإسرائيلي مجموعة من الصحافيين الغربيين (مثل «بي. بي.سي» و«سي. أن. أن» ووكالتَي «رويترز» و«أسوشيتد برس» وFT و«فوكس نيوز») إلى جنوب لبنان، لاطلاعهم على ما وصفه العسكريون بأنه «بنية تحتية واسعة النطاق للمسلحين»، أقامت فيها «جماعة «حزب الله» المسلحة قواعد عمليات أمامية». وقبل ذلك بيوم واحد، أي السبت، نشرت «بي. بي. سي» تقريرًا من داخل القرى اللبنانية الحدودية مع فلسطين المحتلة، يقدم روايةً واضحةً من وجهة نظر الاحتلال. واعتمد أسلوب التغطية بشكل رئيسي على المعلومات التي يوفّرها الإسرائيلي، مع التركيز على تبرير العمليات العسكرية، بصفتها ردًّا على تهديدات «الإرهابيين».

كما عرضت قوات الاحتلال أسلحة زعمت أنّها تابعة للمقاومة اللبنانية داخل منازل المدنيين. كُتب التقرير بروحية داعمة للاحتلال من دون مساءلة جادة أو تحقيق مستقل في ادعاءاته، مع التقليل من الخسائر المدنية أو الإضرار بالمدنيين اللبنانيين. وصوّر المقاومة على أنها «تهديد أمني أساسي»، متجاهلًا السياق الأوسع للصراع وتضامن المقاومة اللبنانية مع القضية الفلسطينية التي أحيتها عملية «طوفان الأقصى». أعدّت لوسي ويليامسون، الصحافية الأميركية العاملة مراسلة في باريس لمصلحة «بي. بي. سي» منذ عام 2014، هذا التقرير الذي حمل عنوان «داخل مناطق القتال الإسرائيلية في جنوب لبنان». ويليامسون، التي بدأت مسيرتها مع «بي. بي. سي» عام 2002 كمراسلة في الشرق الأوسط، غطّت أثناء مسيرتها أحداثًا دولية بارزة، مثل التعافي من تسونامي عام 2004 في إندونيسيا، وكذلك النزاعات في الشرق الأوسط كالحرب الإسرائيلية على لبنان في عام 2006. تحمل شهادة في الأدب الإنكليزي واللغة «الفارسية» من جامعة «مانشستر»، لكن اسمها ظهر أخيرًا في سياقات مثيرة للجدل، إذ واجهت انتقادات الشهر الماضي على منصات التواصل الاجتماعي بعدما وصفت في تقرير لها الفلسطينيين بأنهم «يفرّون» من جنين، بدلًا من توضيح أنّ الاحتلال أجبرهم على النزوح. كذلك، تصدرت ويليامسون عناوين الأخبار بعد مقابلتها مع الملاكم الأميركي البريطاني، أندرو تايت، الشخصية الإشكالية المعروفة بدعمها للرئيس السابق للولايات المتحدة، دونالد ترامب، وتأثيرها الكبير في المجتمعات اليمينية الرقمية.

هذه الانحيازات ليست وليدة اللحظة؛ بل تُظهر كيف تحوّلت مؤسسات إعلامية غربية، مثل «بي. بي. سي»، إلى أدوات تخدم أجندات سياسية تسعى إلى تقويض حركات التحرر العربية، وخصوصًا المقاومتين الفلسطينية واللبنانية. تحت غطاء «الحياد»، تقدّم هذه الوسائل الإعلامية تغطيات تتماهى مع الرواية الإسرائيلية، كما حدث في التقرير الذي رافقت فيه «بي. بي. سي» قوات الاحتلال داخل الأراضي اللبنانية. وبدلًا من نقل واقع العدوان الإسرائيلي، اكتفت بنقل سردياته حول «مخاطر حزب الله»، ما يعكس دور هذه المؤسسات في تعزيز آلة الدعاية الإسرائيلية، وتجاوزها حدود العمل المهني لمصلحة أجندات سياسية معادية للمقاومة.

ليس جديدًا على «بي. بي. سي» نشر تقارير «مضلّلة» تسعى إلى تبرير وحشية الاحتلال. في إحدى تغطياتها الشهيرة العام الماضي، نشرت تقريرًا تساءل عن إمكانية وجود «أنفاق تحت مستشفيات غزة» قبل ساعات من مجزرة «مستشفى المعمداني» في محاولة واضحة لإضفاء الشرعية على قصف البنية التحتية الطبية والمدنية. يمهّد هذا النوع من التقارير، الرأي العام الغربي، لتقبّل «الجرائم ضد الإنسانية»، ويوفر غطاءً أخلاقيًا للانتهاكات الجسيمة التي يرتكبها الاحتلال الإسرائيلي. إنّ الادعاء بأن المقاومة تستخدم المدنيين «دروعًا بشرية» ليس سوى أسلوب دعائي يهدف إلى نزع التعاطف مع الضحايا وإعادة صياغة دور المعتدي في صورة «دفاع عن النفس».

هذا التمييز العنصري في التعامل مع الشعوب الرازحة تحت الاحتلال وأذرع الاستعمار العسكرية، تطبقه «بي. بي. سي» أيضًا مع الصحافيين غير الأوروبيين العاملين لديها. إذ تقدم الإذاعة البريطانية للعاملين الأوروبيين دورات تسمّى «تدريبات البيئة العدائية» Hostile Environment Training بهدف حمايتهم وتأمين تغطيتهم، في حين أن الصحافيين العرب ــــ سواء الذين ترسلهم من لندن أو العاملين في الميدان ــــ يُحرمون من هذه التدريبات. ويعكس هذا التمييز «نظرةً استعماريةً» ترى العرب بشرًا من الدرجة الثانية، ما يعرّض العاملين لمخاطر مميتة. في لبنان، أرسلت المحطة موظفين من مكتب «بي. بي. سي» في مصر من دون توفير أي حماية لهم، وهو ما يعكس سياسة الإهمال المتعمد تجاه الصحافيين العرب، الذين يُتركون لمصيرهم من دون ضمانات.

في الشأن اللبناني، تجاوزت «بي. بي. سي» ووسائل إعلام غربية أخرى حدود العمل الصحافي، لتصبح «جزءًا من إعلام الاحتلال. خطوة اعتبرتها المقاومة جزءًا من الحرب الدعائية، وتأتي ضمن إستراتيجية إعلامية أوسع تهدف إلى إعادة صياغة الرواية لمصلحة إسرائيل، وتبرير عدوانها على لبنان كما هي الحال في فلسطين. وهذا النهج الدعائي ليس جديدًا، فمنذ حرب عام 2006، كان الإعلام الغربي يعمل على تحريف الحقائق وتقديم العدوان الإسرائيلي على لبنان في إطار «دفاعي». واليوم، مع تصاعد العدوان على لبنان، تعود هذه المؤسسات الإعلامية لتلعب الدور نفسه، مقدمة إسرائيل «الضحية» التي تواجه «تهديدًا وجوديًا» من مقاومة محلية مشروعة.

تسبّبت قوات الاحتلال في استشهاد أكثر من 2300 شخص حتى الآن في لبنان، وتشريد نحو مليون ونصف مليون آخرين. مع ذلك، تركز التغطية الغربية على «تحويل الأنظار عن المجازر»، بإعادة تدوير الروايات الإسرائيلية حول «التهديدات الأمنية» و«البنية التحتية الإرهابية». متغافلة عن جوهر الصراع: «احتلال واستعمار»، وتتبنى بدلًا من ذلك منظورًا يبرّر الجرائم تحت مسميات زائفة، ولا سيما عبارة «ضرب مخازن أسلحة» أو «تدمير أنفاق». هذه السرديات ليست بريئة، بل تخدم مباشرة مصالح إسرائيل، وتخلق رأيًا عامًا متعاطفًا مع الاحتلال، ما يعزز «الإفلات من العقاب» الذي تتمتع به إسرائيل على الساحة الدولية.

لقد اتهم عدد من الصحافيين في «بي. بي. سي»، مؤسستهم، العام الماضي، بفقدان المصداقية، وجاءت اتهاماتهم بأن التغطية الإخبارية في غزة تتسم بمعايير مزدوجة، إذ تُستخدم تعبيرات مثل «المذبحة» فقط عند الحديث عن «حماس» من دون الإشارة إلى الجرائم الإسرائيلية. هذا الوضع المقلق ليس مقتصرًا على «بي. بي. سي» فقط، بل يمتد ليشمل وكالات إخبارية أخرى مثل «سي. أن. أن» و«رويترز». على سبيل المثال، اتُّهمت «سي. أن. أن» بتمرير أكاذيب الاحتلال حول «جرائم حماس الوحشية» ولا سيما كذبة الـ «40 رضيعًا»، وهو ما برر استهداف إسرائيل للمدنيين في غزة. كذلك، تعرّضت وكالتا «رويترز» «أسوشيتد برس» لانتقادات بسبب تغطيات تنقصها الموضوعية، ما يعزز تبرير العنف الإسرائيلي بدلًا من تقديم صورة متوازنة.

وانطلاقًا مما حدث، توقف عدد من الصحافيين في بيروت عن العمل في «بي بي سي»، يوم الإثنين الماضي، احتجاجًا على تقرير المؤسسة. ويتألف الفريق من ستّة موظفين، من بينهم سناء الخوري ومحمد همدر وجوي سليم. وقد أعربوا عن نيتهم عدم العودة إلى العمل حتى تصدر المؤسسة اعتذارًا رسميًا عن التقرير أو تُحاسب الفريق الذي رافق القوات الإسرائيلية.

يتعامل الإعلام الغربي مع الشعوب الواقعة تحت الاحتلال بمنطق استعلائي يعكس نظرة دونية تجاهها، كأن معاناتها أقل أهمية أو أنها تستحق ما يحدث لها. تنم هذه التغطيات عن عقلية استشراقية قديمة تعيد إنتاج صورة «المتحضر» مقابل «الهمجي»، وتسوّغ الوحشية التي يمارسها الاحتلال. والدعم المستمر من الغرب لإسرائيل، ماديًا وعسكريًا وإعلاميًا، هو الذي يمنحها حرية التصرف بلا قيود أخلاقية، بما يتماشى مع دورها كأداة للاستعمار. حتى العاملين في تلك القنوات الإعلامية يعانون من الأنظمة المُستعمرة نفسها. ولا يواجه هؤلاء الصحافيون فقط التمييز العنصري، بل أيضًا معاناة حيوية يومية من رواتب منخفضة وضغوط اقتصادية، ما يحوّل العمل الصحافي من مهمة إنسانية إلى نضال شخصي للبقاء، داخل منظومة تخدم مصالح قوى استعمارية أوسع.

شراكة في كذبة الاغتصاب الجماعي

بعد عملية «طوفان الأقصى»، أطلقت «هيئة الإذاعة البريطانية» مزاعم خطيرة حول وقوع جرائم «اغتصاب جماعي» و«قطع رؤوس» للنساء، استنادًا إلى «مصادر» إسرائيلية غير موثوقة. تجاهل التقرير الذي صاغته أيضًا لوسي وليامسون، أبسط المعايير المهنية، إذ لم يعتمد على أدلة جنائية أو شهادات موثوقة من ناجين، بل استند إلى روايات كاذبة من أفراد شاركوا في جمع الجثث من جمعية «زاكا» ZAKA التي سبق أن فضح الإعلام العبري حالات التحرش الجنسي والفساد داخلها («الأخبار» 4/3/ 2024)، ومن دون وجود طبيب شرعي أو تحقيق رسمي.

أظهرت صياغة التقرير انحيازًا واضحًا إلى الرواية الإسرائيلية، إذ لم تسع «بي. بي. سي» للتواصل مع أي جهات محايدة أو منظمات حقوقية. وبدل التحقق من مصداقية الادعاءات، سمحت المؤسسة البريطانية لوليامسون بنقل ما عرضته الشرطة الإسرائيلية من شهادات وفيديوهات مفبركة، رغم غياب أي دلائل قاطعة أو مقابلات مع ضحايا مباشرين. يعكس هذا الأسلوب تحوّل «بي. بي. سي» من وسيلة إعلامية كانت تتمتع بمصداقية إلى ماكينة إعلامية في الحرب النفسية ضد الفلسطينيين.

يُستخدم هذا النوع من التقارير لتبرير المجازر بحق المدنيين والأطفال في غزة، ما يؤكد تواطؤ الإعلام الغربي في الحملة الدعائية الإسرائيلية، التي تهدف إلى تشويه صورة المقاومة وتبرير القتل الجماعي تحت ستار «الدفاع عن النفس» من هجمات «الهمج».

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد