توقّدت ذاكرتي فجأة، أنا التي كنت أخشى مؤشرات تدلّ على بدايات شرود أو ضعف تُظهِره في استرجاع بعض المحطات.
كنت قد قررت زيارة عائلة صديقة للاطمئنان إليها بعد غارة عدو إسرائيلي قاتل وبربري على الضاحية الجنوبية أجبرها على ترك منزلها، إلى السكن في منطقة آمنة، بالرغم من الشعور/شعورنا بغدر هذا العدو الذي لطالما اعتاده منذ نكبة فلسطين العام 48 بحق الأبرياء أينما وجدوا.
قبل أن أدق على باب مبيتهم الجديد، استذكرت فجأة أنني كنت قد زرت أصدقائي هؤلاء في حرب "إسرائيل" العدوانية في العام 2006 على لبنان، وتحديدًا على جنوبه وضاحيته، وأنني يومها ذهبت أيضًا للاطمئنان إليهم. وكانوا قد تركوا مكان سكنهم في الضاحية الجنوبية بفعل تلك الاعتداءات.. ثم كرّت سبحة من تواريخ حياة هذه العائلة، ومثيلاتها من عوائل أهل الضاحية والجنوب، في نزوحهم من أماكن سكنهم، إلى حين. فحضرت في بالي أنني زرتهم في العام 1996 بسبب الاعتداءات الإسرائيلية وعناقيد غضبها، وقبلها في عدوانها العام 1993، وقبل هاتين المحطتين كنت قد زرتهم للاطمئنان عليهم في العام 1989، وعبثية تلك السنة من الحروب.
لقد عادت بي الذاكرة إلى يوم تعرّفت إليهم في العام 1985، وكانوا قد تركوا سكنهم في الضاحية الجنوبية بفعل قذائف حكم الرئيس الأسبق أمين الجميل التي أدّت إلى تدمير بيوت ومبانٍ في الضاحية. وأنهم أخبروني يومها عن نزوحهم من الجنوب إثر اجتياح "إسرائيل" للبنان في العام 1982، وقبلها ببضع سنوات في اجتياح العام 1978. استوقفني هذا الشريط من النزوح، ومعاناة هذه العائلة، ومثيلاتها من أهلنا في الجنوب.
لم أدق على باب سكنهم الجديد.. لأنّ شريط الذاكرة أخذ بالاستفاقة تباعًا. ولم أسأل نفسي لماذا، وكيف تعيش هذه العائلة/وهذه العوائل محنة هذا النزوح المتكرر.. لأنني أعرف، ويعرف كل إنسان صاحب ضمير أن لهذه العوائل سجل تمتلكه من شعور الكرامة والصبر والتحدي ما لم يتوافر لكثيرين من الأحياء/الأموات.. وتأكدت مجددًا، أن للحق في الحياة الشريفة أثمانها الباهظة. وأن الاستكانة والخنوع أبعد ما يكون عن مفاهيم هذه العوائل، فكيف وقد تعمّدت بدماء فلذات الأكباد وأحباب الروح، وتمسكت بقيم ودروس من عبق التاريخ تحكي معنى الشهادة، والاستشهاد في سبيل الحق وإصلاح أمة نبينا محمد، وفي معنى الدفاع عن أرض محتلة لتحريرها من الغاصب، وفي معنى الزود عن البقاء أحرارًا وليس بالعيش كالعبيد المُستلبين في نفوسهم، ومن فاقدي الشعور بالإباء.
تذكرت أن أجداد عائلتي الصديقة كانوا قد استشهدوا على الحدود مع فلسطين المحتلة؛ بفعل مجزرة ارتكبتها عصابات الهاغانا وشتيرن من مؤسسي المشروع الصهيوني وعلى أرض لبنانية، فلمعت أسماءهم في سماء جبل عامل/جنوب لبنان/ مشرق الأرض ومغاربها. وأنهم كانوا شركاء في ضريبة الدم والتهجير والنزوح مع أخوانهم من أرض فلسطين المحتلة.
بين حروب مدمرة شنّها العدو الصهيوني وجيشه على أرض جنوب لبنان، وبين عدوان وآخر، وبين نزوح ونزوح، كانت شتلات التبغ تنمو، ومعها تنمو سواعد، وقلوب ويقين، وقوة إرادة تنغرس كما تراب العشق، وفجر الصباح. وفي الحكايات، أن دفقًا من شهداء، وقادة شهداء امتلكوا أسرار المواجهة والمجابهة، فحطوّا كالبشائر، وأعلنوها مقاومة، لم ولن تكون إلّا لمقاومين.
قبل أن أدق على باب السكن الجديد/المؤقت لعائلتي الصديقة فهمت أسباب كل تلك المحطات من النزوح..عدو طامع بالأرض، لكنها المقاومة، ولن يكون لأعدائها راحة..
في داخل السكن الجديد للعائلة الصديقة، تعرّفت إلى وجوه لم تعتد النزوح، وإن اعتادت تقديم الشهداء. أتوا من شرق لبنان. أجبرتهم غارات العدو الإسرائيلي على بقاع السهل وسهل البقاع على الن.ز.و.ح...