".. وكلُّ ذليل خير عادته الصبر!"...الشاعر العربي جرير التميمي.
في حرب شاملة تخوضها الأمة العربية، أو هكذا يفترض، لا بد من الاعتراف أن القطاع الغالب منها قد سقط إلى غير رجعة، بينما ثبت أعز الناس وأشرفهم وأكرمهم في ميادين النار؛ يقدمون فوق الطاقة الإنسانية وأكبر من الإمكانات والموارد، يقارعون بصبرهم وثباتهم وإيمانهم أحقر إمبراطورية في التاريخ البشري، أميركا، وورائها العالم الغربي بأكمله.
مع هذا المشهد ذي الوجهين، إنّنا مدعوون لفهم كيف وصلنا إلى لحظة التبلّد والخمول، وكيف نبت في المنطقة كل هذا القدر من الخنازير الأوغاد، ممن لا يعرفون دينًا ولا شرفًا ولا كرامة؟!
قبل أي كلمة؛ محور المقاومة يجابه في ميادين النار الأميركي مباشرة، والأخير يعدّها سوى معركة وجود. في المقابل؛ الوعي العربي ما يزال أسيرًا لوهم أن الإرادة الأميركية لا تٌردّ، وأن مشيئتها قاهرة نافذة، كقدر ليس منه فكاك، فاصطدم الوعي الجمعي العربي –أو هكذا كان يفترض- بقادة المقاومة يستشهدون في الصفوف الأولى للمعارك، مقبلين غير مدبرين، ثم رأى ثانيًا المقاومة بكامل عنفوانها وعزتها وقوتها مستمرة في إيلام العدو وتحطيم غروره، باقية حافظة لهذا الخط الإيماني الكربلائي..
لكن هل تعلّمت العقلية العربية الواقعة تحت أسر حرب الدعاية الأميركية شيئًا كثيرًا مما جرى؟ مع الأسف، ربما تكون الإجابة "لا" قاطعة وعالية.
العربي اعتاد أو عاش حياته في ظل البكاء العاجز الحقير، أغلب العالم العربي، اليووم، خاضع بالكامل لأنظمة مهندسة أميركيًا، هذه الأنظمة فتحت المجتمعات لأكبر عملية غسيل دماغ في التاريخ البشري المعروف، فالقيم بفعل سيطرة وتغلغل وتوغل إعلام أميركا تغيرت، والمبادئ كسرت، والثوابت بددت أو بيعت، والنتيجة ثلة شريفة قليلة تحارب وتدفع بالدم ثمن عدم السقوط، وأغلبية كغثاء السيل، ولو شئنا دقة الوصف لقلنا "من المنافقين".
الفرص التاريخية التي حملها "طوفان الأقصى" للأمة، بتضحيات الأبطال في فلسطين ولبنان والعراق وسورية واليمن وإيران، كانت ضخمة وواعدة، كل شهيد هو بطل عظيم، وكل مقاتل هو نموذج إنساني فريد وملهم.. وقادتنا، سماحة السيد حسن نصر الله، والقائد يحيى السنوار والحاج إسماعيل هنية والقائد فؤاد شكر، كلهم كان يجب أن يتحولوا إلى أيقونات مقدسة عند ملياري مسلم، لكن ما حدث في الزمن الأميركي لم يكن كذلك، بكينا دمًا على قادتنا، لكنا فشلنا في تحويل كل منهم إلى "بطل اللحظة" للأمة بكاملها، وحده الإعلام الأميركي والعربي التابع يعرف اللعبة ويجيدها، ووحده يمنح صكوك البطولة والشهادة.
في كتابه ذائع الصيت، "خفايا نظام النجم الأميركي"، يفسر الناقد الأميركي بول وارن كيف يصنع البطل ويجري ترويجه عالميًا، عبر تقنيات "شبه سحرية" برعت بها السينما الأميركية الموجهة ضدنا. يقول وارن إن الإنتاج الأميركي انتقل منذ منتصف الخمسينيات، من القرن الماضي، إلى وضع "معايير البطولة"، أنتجت هوليوود فيلمًا عن جيفارا مثلًا، بينما لم تجرؤ على إنتاج عمل مماثل عن ثوريين عظماء آخرين، دائرة الضوء هنا هي للنماذج التي يريد أن يروجها الأميركي ويفيد منها، صور المقتولين لا المنتصرين.
يضيف "وارن" أن أهمَّ التقنيات الجديدة التي اعتمدت عليها السينما الأميركية، وميَّزتها عن غيرها من السينمات العالمية، تقنيةُ لَقطة رد الفعل، والتي تركِّز على ردود أفعال الممثِّلين الموجودين في المشهد حِيالَ حدثٍ معيَّن. وغالبًا ما تكون هذه اللقطات صامتة، وتكون عدسة الكاميرا قريبةً من الممثِّل مركِّزةً على تعابير وجهه؛ لتعكس حاله العاطفية، وتسمح للجمهور برؤية ردِّ فعله عن قُرب، هذه التقنيات تحول المشاهد البائس إلى جزء من الخيال الذي يجري أمامه إلى "مجند متطوع" في خدمة البطل المختار. قبل عقد ونيف أطلقت هوليوود مشروع "مارفل" لنجوم خرجوا من خيال بائس، شخصيات كرتونية وكوميدية بقدرات خارقة، يمكن اليوم معاينة متابعة هذه السلاسل المتتالية من الأفلام في العالم العربي، والأحزاب المؤيدة لبعضها البعض والكارهة لبعضها الأخر، لتعرف مدى الاختراق الذي قدمته أنظمة العمالة، في مقابل تأجيج الخلافات الطائفية، وسط الحرب، على قادتنا وزهر أيامنا ونور أعيننا.
..
هذه الحرب النفسية والإعلامية القذرة آن لها أن تتوقف، ببركة دماء سادتنا الشهداء، وأن يضع لها العقلاء حدًا، حان وقت نزع هذا السلاح الأكثر فتكًا وترويعًا من اليد الأميركية..
قديمًا قال المناضل الإفريقي الصلب فرانز فانون: "إنّ جنون القتل هو ما يميّز سلوك المحتلِّ في زمنِ عجزِه. أمّا المضطَهد، فلن يتوانى عن تعريض نفسه للموت لإحساسه بأنّه مقتولٌ لا محالة"، الخطوة الأولى للتحرير هي رفض الأميركي بجملته، أو بعبارة فانون الخالدة "وضع السكين على رقبته".