يا صافيًا... زلت "الـكيان" من المدى
ومـنَ الــوجود كمسرح الأشـــلاءِ
أوفيتَ عهدك لــلـمجاهد واقفـًا
وصمدتَ فـــي نفق مع الإعياءِ
فـانعمْ بـرمش الـقدس حرًّا في السّما
واهتف بــآيات... فدى الــشُّـهـداءِ
إنَّ الــقلوب الآن تذكر نبلكم
وتـعــدُّكـمْ بطلًا مـــن الشرفاءِ
الشاعر أنور موسى
لم يستطع الصمود أكثر من أيام معدودات؛ في حين استمر العدوّ الصهيوني باستهداف المكان منعًا من إنقاذه؛ في الرابع من تشرين الأول الجاري، فقد بقى تحت الدمار ثلاثة أسابيع متواصلة.. فما كان من الله سبحانه إلّا أن استجاب له بتحقيق حلمه القرمزي بسحر الشهادة في عمر السّتين؛ بالأخص بعدما فارقه رفيق العمر والدّرب الشهيد الأعز والأسمى والأقدس الأمين العام سماحة السّيد حسن نصرالله، بأيام قليلة تفصل بينهما..إذ قال السّيد هاشم صفي الدّين عقب هذا الرحيل الأليم في رثاء سماحة الأمين العام :
"الإخوة الأعزاء جميعًا .. أكتب إليكم في أمضّ وأفجع لحظات عمري، ليت الموت أعدمني الحياة، ولعلّي لاحق به عمّا قريب شهيدًا في أثره، فتستقرّ بذلك روحي. لا أنعي نفسي ولكن لا طيّب الله العيش بعدك يا سيّدي وحبيبي وروحي التي بين جنبيّ. ألا ليتني متّ قبل هذا وكنت نسيًا منسيًا.. ولكن يتوجّب علينا أيها الإخوة الأعزاء أهل القلم والفكر والرأي والصوت الصادح المبارك- بإذن الله- أن نثبت في الميدان ونقف على أقدامنا متمسكين بمقاومتنا وحقنا وواجبنا في الدفاع عن وطننا وشعبنا".
"لعلّي لاحق به عمّا قريب شهيدًا في أثره؛ فتستقر بذلك روحي.."؛ هذا كان طلبه الأخير وأمنيته الغالية؛ فلم يخيّب الله أمله؛ فارتحل في الأثر شهيدًا عظيمًا؛ فالله درّه من قائد خافه العدو حتى قبل أن يحلّ أمينًا عامًا خلفًا للسيد نصرالله؛ فأسرع بالقضاء عليه؛ فكان لغيابه وشهادته أثر أعظم بين المجاهدين الذين يسطّرون أعظم الملاحم البطولية على الحدود مع أعتى عدوّ للأمّة الإسلاميّة مذ بزوغ نور النبي الأعظم محمد (ص)، وهم يريدون إطفاء هذا النور لتبقى ظلماتهم .. وكان لغيابه بين مجتمع المقاومة صمودًا أكبر واعتزازًا أشدّ من أي وقت مضى؛ حين يرون أن من يمثّلهم ويقود مسيرتهم هم أوّل من يدفع التضحيات، وهم أول الشهداء..فكيف لا يصمدون؟!..
قصف العدو مقرّ السّيد هاشم صفي الدّين في الرابع من تشرين الأول الجاري، ولغاية اليوم الثاني والعشرين، كان يمنع فرق الإسعاف والدفاع المدني من الاقتراب من مكان الغارات في محلّة الليلكي في الضاحية الجنوبية لبيروت؛ مستهدفًا المسعفين والجرافات، أكثر من مرة، حين الاقتراب من المكان. وبالرغم من تواصل الصليب الأحمر مع قوات اليونيفل عدة مرات، لإدخال طواقمه الى المكان، إلا أنّ العدو كان يصرّ رافضًا. وقبل اليوم الثاني والعشرين؛ أعادت فرق الدفاع المدني محاولاتها للوصول إلى المكان والعمل على انتشال جثامين الشهداء، فتمكّنت من ذلك؛ حيث وُجدت مع السّيد صفي الدّين جثامين عدد من الشهداء، من بينهم قياديون في المقاومة.
من هو السّيد هاشم صفي الدّين؟
في العام 1964، وُلد الطفل هاشم صفي الدّين في بلدة دير قانون النهر الجنوبية، قضاء صور؛ حيث ترعرع في كنف أسرة ملتزمة دينيًا؛ إذ لم تختلف نشأته الاجتماعية والثقافية عن الأجواء التي نشأ فيها رفيق دربه وابن خالته الشهيد الأقدس السّيد حسن نصرالله – رضوان الله عليهما- فقد تلقّى صفي الدّين علومه الدّينية في حوزات النجف الأشرف في العراق، ثم ارتحل إلى مدينة قمّ المقدّسة في إيران، في الثمانينيات من القرن الماضي.
بناء على طلب السّيد نصرالله؛ عاد السّيد هاشم إلى لبنان، في العام 1994؛ فتولّى مسؤوليّات عديدة في هيكيلية حزب الله التنظيمية، حيث كان له دور بينها العسكري والتنظيمي والسياسي، فتولّى بدايةً مسؤولية منطقة بيروت في الحزب، ثم في العام 1995 رئاسة "مجلس المقاومة"، قبل أن يُصبح في العام 1998 عضوًا في مجلس شورى الحزب. بعدها ترأّس المجلس التنفيذي، وصار مسؤولًا عن تنفيذ السياسات الداخلية وتطوير الهيكل الإداري والإشراف على المؤسّسات المرتبطة بالحزب.
يُسجل للسيد صفي الدّين محطّاته البارزة وقيادته جهود إعادة الإعمار، في لبنان عمومًا، وفي الضاحية الجنوبية خصوصًا، بعد عدوان تمّوز في العام 2006. ونظرًا لبروز دوره بعد تلك المرحلة في تطوير هيكلية الحزب التنظيمية أدرجته الولايات المتحدة الأميركية في القوائم التي تصنّفه بـــ"الإرهاب" الخاصّة بها في العام 2017. كما فرضت عليه عقوبات اقتصادية بعد ذلك بعام.
هذا؛ ويعدّ السّيد صفي الدّين الشخصية الثانية في حزب الله، بعد أمينه العام الشهيد السّيد حسن نصر الله. وبعد اغتيال الأمين العام تردّدت معلومات تفيد بأنه هو من سيخلفه. وعلى ما يبدو أنّ ذلك شكّل خوفًا دفينًا عند حكومة العدو؛ وهي التي تعرف صلابته وشدته وعمق التزاماته وإخلاصه للقضية الفلسطينية؛ فأسرعت إلى تصفيته غدرًا؛ فما كان من بنيامين نتنياهو الحقير إلّا وأعلن إثر عمليته الغادرة أن: "إسرائيل اغتالت خليفة نصر الله".
لقد حظيت شخصية الشهيد السّيد صفي الدّين بشعبية بين أوساط المقاومين وعائلاتهم، وبمحبة عامة واحترام واسع بين جمهور المقاومة الذي كان قريبًا منه ومطلعًا على يومياته، عاملًا على تجاوز مشكلاته، بالعمل، ليلًا نهارًا، في مؤسّسات الحزب الاجتماعية وغيرها. إذ على مدى ثلاثة عقود، أمسك السّيد الشهيد بكثير من الملفات اليومية الحسّاسة في الحزب في مختلف مؤسساته.
على غرار الشهيد الأقدس السّيد حسن نصر الله، يشترك السّيد صفي الدّين معه في العديد من الصفات، لقد كان يتميز بالحضور الشعبي والسياسي، وخطاباته المفوهة والنارية، والتي تغلب عليها النبرة الدّينية القوية، والمواقف الملتزمة بقضايا الأمة، مهددًا على الدوام في تلك الخطب العدو الإسرائيلي بالمصير الذي ينتظره على أيدي المجاهدين الأبطال؛ في حال أقدم على أي اعتداء على لبنان. ففي كلمة ألقاها في 13 يوليو/ تموز 2024، قال السّيد صفي الدّين: "إذا كان تكليفنا، كما هو اليوم، أن نكون في الجنوب نقاتل هذا العدو، ونقدم شهداءنا، فنحن مستعدون للتضحية بكل شيء، وواثقون بأن الله سينصرنا كما نصرنا في العام 2006". وفي خطاب آخر في 18 من الشهر ذاته، شدد على أن: "لبنان معني بالحرب مع العدو الإسرائيلي من دون قيود أو حدود". كما أكد مرارًا، في المدة الأخيرة، على ما سبق أن أعلنه الشهيد الأقدس السّيد نصر الله بأنّ حزب الله لن يتوقف عن دعم جبهة غزة حتى إيقاف الاحتلال عدوانه على قطاع غزة المحاصر.
نجم آخر من نجوم قادة المقاومة يرتفع نحو السماء عائدًا إلى عليائه الأولى في الأصل؛ فمسكن الإنسان الأول هو السماء التي هبط منها ليعمّر الأرض، وإلى السماء يعود؛ بعدما عمرّ السّيد هاشم صفي الدّين طوال حياته الشريفة وبشهادته المقاومة ومجتمعها بالبناء العامر بالعطاء والتضحيات.
لذلك قال في حقه الإمام الخامنئي: "لقد التحق السّيد المجاهد الشجاع والمضحّي، سماحة السّيد هاشم صفي الدّين -رضوان الله عليه- بصفوف شهداء المقاومة، فازدانت سماء الجهاد في سبيل القدس الشريف بنجم ساطعٍ جديد. كان سماحته من أبرز الشخصيات العظيمة في حزب الله، وكان الناصر والرفيق الدائم لسماحة السّيد حسن نصر الله. بفضل حكمة وشجاعة قادة مثل سماحته، استطاع حزب الله أن يصون لبنان من خطر التقسيم والانهيار مجددًا، وأن يحبط تهديد الكيان الغاصب الذي كان جيشه الشقي والظالم يسحق الأرض بأقدامه وصولًا إلى بيروت أحيانًا. إنّ شهامة سماحته وتضحيته، هو وسائر القادة والمجاهدين في محور نصر الله، أزالت خطر غصب جنوب الليطاني وصور وغيرها من مدن تلك المنطقة، واحتلالها، وضمّها إلى فلسطين المغصوبة والمحتلة، وجعلت أرواح حزب الله وممتلكاتهم وسمعتهم القيّمة تخوض الميدان في سبيل الحفاظ على سيادة أراضي ذاك البلد، وأفشلت الكيان الصهيوني المعتدي والمجرم".
يتابع الإمام الخامنئي: "بالرغم من أن ظاهر الأمر اليوم هو غياب قادة من أمثال نصر الله وصفي الدّين، في هذه النشأة، إلّا أنّ أرواحهم وقيادتهم ما تزال حاضرة في الميدان، وتدافع عن لبنان وشعبه الأعزل. ما يزال حزب الله اليوم أقوى مدافعٍ عن لبنان، وأصلب درع يتصدّى لأطماع الكيان الصهيوني الذي يسعى منذ زمن بعيد إلى تقسيم لبنان. يحاول العدو إنكار الدور الفدائي لحزب الله من أجل لبنان، لكن يجب على الحريصين ألا يسمحوا بأن تبلغ المسامع هذه العبارات الباطلة التي تصرخ بها حناجرهم.. حزب الله حيّ ومتعاظم، ويؤدي دوره التاريخي، والجمهورية الإسلامية ستواصل، كما جرت عادتها، دعم مجاهدي القدس والمقاومين في وجه احتلال العصابة المجرمة الغاصبة لفلسطين، بإذن الله.. ".
أمّا حزب الله فقد نعاه بكلمات مؤثرة تنمّ عن احترام وتقدير عظيمين لدور هذا الشهيد القائد؛ بقوله : لقد التحق السّيد هاشم بأخيه شهيدنا الأسمى والأغلى سماحة الأمين العام لحزب الله السّيد حسن نصر الله ولقد كان نعم الأخ المواسي لأخيه، وكان منه بمنزلة أبي الفضل العباس- عليه السلام- من أخيه الإمام الحسين- عليه السلام- فكان أخاه وعضده وحامل رايته، ومحل ثقته، ومعتمده في الشدائد والكفيل في المصاعب، مضى على ما مضى عليه البدريّون ناصرًا لدين الله، تقيًا، صالحًا، رائدًا، مدبّرًا، مديرًا، قائدًا وشهيدًا".
كما بيّن بيان النعي: "لقد قدم سماحة السّيد هاشم صفي الدّين جلّ حياته في خدمة حزب الله والمقاومة الإسلامية ومجتمعها وأدار على مدى سنوات طويلة من عمره الشريف بمسؤولية واقتدار المجلس التنفيذي ومؤسساته المختلفة ووحداته العاملة في مختلف المجالات وكل ما له صلة بعمل المقاومة قريبًا من مجاهديها، لصيقًا بجمهورها محبًّا لعوائل شهدائها حتى حباه الله بالكرامة شهيدًا في قافلة شهداء كربلاء النورانيّة".
في الختام؛ يشهد التأريخ أن الله سبحانه قد رسّخ فيه سننه الربانية؛ في أن للمعركة بين الحق والباطل جولات وجولات حتى يوم القيامة؛ وقبله يوم العدل الإلهي والوعد الرباني مع دولة صاحب الزمان (عج)؛ حينها نعمّر الأرض بالخير والكرامة والعزة والشرف التي يستشهد من أجلها شهدؤانا العظام. إذ بعد أقلّ من شهر على فقيدينا الغاليين الشهيد الأقدس السّيد حسن نصرالله ورفيق دربه السّيد هاشم صفي الدرين رئيس المجلس التنفيذي في حزب الله؛ تبرهن المقاومة على حقيقة هذه السُّنة التاريخية بين البشر " إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ ۖ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ ۗ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ" (سورة أل عمران، 160) وبدأنا نشهد صراخ جنود العدو الإسرائيلي في جنوب لبنان صراخًا سيتحول إلى عويل ونباح يتبعه هروب إلى أقصى الغرب محرّرًا فلسطين كلها من النهر إلى البحر.