الشباب مجانين، يحاربون العالم. هكذا يُقال عنهم. ممنوع أن تعيش سوى كدُمية للاستهلاك. ثمّ إذا رفضت ذلك، فالعالم كُلّه يملأ طائرات "إسرائيل" بالوقود والبارود ليُحيلك وقصّتك أشلاءً. تنام على فقد وتستيقظ على موت، رائحة جثث في الجو. تعيش محاولًا الفرار من اثنين: خيمة نزوح ومركب هروب. ثُمّ أن تُقاوِم ذلك؟ يا لك من مجنون!
شبابنا مجانين، هكذا يوصفون. يُقال إنّ العالم كبير، وغابة، وإن الأقوياء كُثُر، وإن الصراع هو مع أعتى قوّة في الكوكب حاليًا، إمبراطورية تُسيطِر على ثلث أرباع الكوكب، توظِّف أنظمة كاملة لخدمتها، تُسيطِر على اقتصاد العالم، تملك أكثر التكنولوجيات تطوّرًا، لديها جيش من الخانِعين المُتآمرين، أميركا.
شبابنا مجانين، هكذا يُقال عنهم. يُريدوننا واقعيين، حسنًا تعال في جولة على الواقع: تُحلّق الطائرات المُتطوّرة فوقنا والمُسيّرات تنخر أعصابنا، ويُظهِر النظام العالمي قوته في وجهنا، ويُريد إخضاعنا تحت سطوة الرُعب والخوف والألم والموت واليُتم والوِحشة، يُريد إخضاعنا برائحة البارود والدمّ. والمجانين، شبابنا، يقولون لهذا لا، فإن كان عدم خضوعنا لهذا الرُعب جنونًا، فأهلًا به. أيّ واقِع هذا الذي تُريدنا تقبّله؟ واقع لا قيمة فيه لشبابنا وحياتنا وقِصصنا؟ واقع يَفرح فيه العالم في رؤيتنا كأشلاء؟ هذا واقع لا نقبله ولا نُريد أن نقبله.
هذا ما يُميّزهم، أنهُم لم يقبلوا بهكذا واقع. نحن إن خسرنا شيئًا في هذه الحرب، نكون كسبنا الكثير لأننا عرفناهم. هذه المرة، عرفناهم أكثر من أيّ وقت مضى. أحسسنا بعملياتهم قبل أن نُشاهدها، عبر تلك البيانات التي تُكتب كُلّ يوم. بضعة أسطُر تُربّت على أحزاننا لتُسكنها، لتُهدّئ من روعنا. كما يمسح الدمع عن خدّ يتيم، ويُزيل الوِحشة من نياط القلب.
نشعُر أننا الآن، نعرف العدالة. فما يُشعرك بالافتتان بالمقاوم، هو كيف يُعرّف كمُشتبِك عن نفسه. فالذي يقوم بعملية دهس أو طعن أو يشتبك بالسلاح والصاروخ، يزيح القناع عن كونه مجهولًا، ليصير اسمًا. بعدما سار خفيفًا على الأرض، كطيف، لا صوت لهُ. أيّ إنهُ هادئ، لا يفتنه الضجيج، لم تُغره معرفة الناس به قبل العملية، لا يعنيه اسمه وهويته، يعنيه أن يُعرَف كـ «مُنفّذ عملية». هذا عين الرِفعة والسمو. الآخر، من يحمِل روحه على كفّه ويُقاوِم هذا الطُغيان، يشتبِك كجُندي، هذا يُعرَف كذلك أنهُ عادِل، هذا اسمه، هذه هويته، لا عائلة ولا تعريف ولا منطقة ولا بِلاد، فقط اسمه «» «عادِل». عدالة الدهس والطعن والعبوة الناسفة، عدالة أن يتحوّل الصاروخ إلى أداة لخياطة جروحنا.
في المقاطع المصوّرة للمقاومين على الجبهات كافة، أنت لا ترى وجوهًا، بل أيدي. يَد تضع صاروخًا في الراجمة وأخرى تتحكّم في مسيّرة وتلك التي تضع عبوة ناسفة على دبابة أو تنصب كمينًا. تلك الأيدي، التي لا نعرف هوية صاحبها، لكن نشعر بحرارة القلب الذي يملكه، كأنها أيدينا، لا أيدي غريب أو آخر، أيدينا نحن، تخصّنا، كأنّه عبر يديه ينفذ ما تُريده أيدينا. تلك الأيدي التي تمسح على قلوبنا، تنفّذ عملية فتقتصّ من الجاني والمجرم والمُعتدي، من القاتل والمتوحش، كأنها تُقيم العدل في هذه الدنيا مجددًا، تشعرك بأنّ العالم ما زال بخير وما زال من الممكن التعويل على شيء في هذه الحياة الظالمة. ننظر فيها إلى أيدينا، تملك تفاصيل جنوب العالم وقصّتنا معه، سمراء وفيها شيء من النحول وتنبض بحرارة، تشعُر أنّ هذه هي التي يملكها ذو بشرة سمراء وملامح غضوبة وحنونة في الوقت عينه. ملامح جنوب العالم، ملامح تُفسّر قصّتنا كعالم الجنوب في عالم يأكل الأخضر واليابس من أجل مصلحة النظام العالمي. عالم من خلال موتنا وإفقارنا وسرقتنا ونزاعاتنا التي يفتعلها يُضخّم في ثروات رأس المال ونفوذه.
عالم، لا يفهم سوى لغة القوّة، لا يُجابه بالمنطق، لأنهُ لا يؤمن به. فأيّ منطق تتحدّث بينما جيش من المسعورين والمرضى يُعلف وتُرمى له الثروات والأسلحة من أجل ارتكاب إبادة جماعية وسط تصفيق مسرحي عالمي للمشهد؟ تلك الأيدي، هي العدل وحده. كُلّ تحايا العالم لا تكفي لتوجيهها لهؤلاء الذي يضعون قلوبهم في أيديهم ويواجهون بنورهم ظلام الأيام والليالي.