ما سرُّ أبناء جبل عامل؟ من أين يستمدون هذه الشجاعة النادرة والثبات الراسخ في مواجهة الغطرسة الصهيونية المتمادية؟ وكيف لشباب في عمر الورد أن يقفوا صامدين أمام آلة حرب جهنمية، وطائرات تمطر أرضهم بقنابل ثقيلة ومُسيّرات تراقبهم على مدى الساعة وصواريخ ذكية تزلزل أفئدة أعتى المحاربين؟
إنّ شخصية العاملي المقاتلة ليست وليدة لحظة عابرة، ولم تكن نتيجة نضالات السنوات الأخيرة فقط. إنها إرث عريق توارثته االعائلات، جيلًا بعد جيل، وجينات مقاومة تخمّرت على مر العصور، وتعمّدت بنيران المحن، حتى صاغت لنا هذا المحارب الفذ الذي نراه اليوم. تضرب جذور هذه الشخصية المقاومة أعماق التاريخ، فأصل أهل جبل عامل يعود إلى قبيلة عاملة اليمنية العريقة التي هاجرت من اليمن بعد انهيار سد مأرب. ولعل من أبرز المحطات المفصلية في تكوين هذه الشخصية الفذة تتلمذهم على يد الصحابي الجليل أبي ذر الغفاري، ذلك الثائر المعروف بمواقفه الصلبة ضد الظلم والطغيان.
على امتداد ألف عام، وقف أبناء جبل عامل سدًا منيعًا في وجه كلّ محتل، من مقارعة الصليبيين، إلى مقاومة محاولات العثمانيين طمس هويتهم العربية والثقافية، إلى النضال ضد الانتداب الفرنسي، وصولًا إلى يومنا هذا حيث يتصدون للهجمة الصهيونية، ذائدين عن الوطن والأمّة. يسرد المؤرخ اللبناني جعفر المهاجر في كتابه «جبل عامل تحت الاحتلال الصليبي» (دار الروضة، 2001) مراحل المقاومة التي خطّها العامليون بدمائهم ضد الغزاة. بدأت هذه الملحمة مع نجاح الحملة الصليبية الأولى في اختراق العالم الإسلامي عام 1099م، حين احتلّ الفرنج القدس وارتكبوا فيها إحدى أبشع المجازر في التاريخ. انتقل الصليبيون بعدها إلى احتلال جبل عامل تدريجًا عبر طبريا وأصبحت أعالي جبل عامل الشرقية تحت السيطرة الصليبية في بداية القرن الثاني عشر الميلادي، بينما ظلّت المناطق السفلى منطقة صراع بين المسلمين (تحت الحكم الفاطمي في صور) والصليبيين (في تبنين). في تلك الفترة الحاسمة، ركّز أبناء جبل عامل جهودهم على الدفاع عن مدينة صور ومؤازرة أهلها، ونجحوا في منع سقوطها زهاء ربع قرن، مدعومين من «الأفضل» وزير الخليفة الفاطمي الحاكم بأمر الله، وظهير الدين طغتكين أمير دمشق. ثم تُوّجت مقاومتهم بمشاركتهم الفعّالة في معركة حطين الشهيرة عام 1187م، إذ أسهموا في تحرير القدس والمناطق المحيطة بها من السيطرة الصليبية.
يؤكد المهاجر «أنّ البروز الأكبر لأبناء جبل عامل في ميدان الجهاد، كان مشروطًا بقيام جبهة إسلامية متراصة، وتوحّد القوى الإسلامية سياسيًا واتجاهها بكلها نحو مقارعة المحتلين. الأمر الذي تحقّق على يد صلاح الدين، حيث اندمجوا اندماجًا كاملًا في المجموعات المقاتلة التي اجتمعت حوله. والثابت أنهم اشتركوا في معركة حطين الفاصلة، ثم من بعدها في كل المعارك التي خاضها المعسكر الإسلامي. وكان قائدهم، أحد أبطال الجهاد في تلك الأيام، الأمير حسام الدين بشارة العاملي الذي اكتسب آنذاك موقعًا مهمًا جدًا لدوره ودور عسكره المتميّز في الجهاد بحيث أنه اعتبر أعلى الأمراء شأنًا والمُقدّم على أمراء صلاح الدين كافة».
أما محمد جابر آل صفا في كتابه «تاريخ جبل عامل» (دار النهار ـــــ 1981) فيصف الظروف التاريخية الصعبة والصراعات المستمرة التي شكّلت هويّة سكان جبل عامل وطبيعتهم، مُحوّلة إياهم إلى شعب محارب وصامد في وجه التحدّيات: «لقد كان توالي الحروب الطاحنة سببًا أوليًا لوقوف أبناء جبل عامل وقفة المستميت دفاعًا عن أوطانهم وحفظًا لكيانهم، وقد خلق منهم هذا الإرهاق الشديد، شعبًا حربيًا باسلًا يهزأ بالمنايا ويرى الموت حياة خالدة تحت شفار السيوف».
كما يصف آل صفا المجتمع العاملي إبان الحكم العثماني، إذ كانت الحرب والاستعداد لها محور الحياة اليومية والثقافة الاجتماعية مع قدرة على التكيّف والتنويع في أساليب القتال، وثقافة تُمجّد التضحية والشجاعة في سبيل الدفاع عن الوطن: «انصرف الشعب العاملي كله في ذاك العهد (الحديث هنا عن العهد العثماني) لممارسة فنون الحرب وإحكام خطتَي الدفاع والهجوم، وكانوا لا همَّ لهم في فترات السلم إلا شحذ السيوف وتسديد المرمى، والكر على ظهور الخيل يُعلمونها أولادهم منذ الصغر، ولم يكن فخرهم إلا بعدوّ يُغلب وثناء يُجلب، وذبائح تُنحر وحديث يُذكر. أمّا نظام الدفاع عن البلاد، فقد كان على درجة من الرقي تدهش الباحثين ومن فنون القتال التي أتقنها العامليون: الرمي بالبنادق، وضرب الرماح، وسرعة الالتئام والتعبئة عند إعلان النفير، والكر في الهجوم، واليقظة والحذر في الدفاع، وتحصين القلاع والحصون وشحنها بالسلاح والمقاتلين وإجادة القتال فيها».
كذلك، يتحدث عن قدرة العامليين على تغيير إستراتيجياتهم القتالية حسب الظروف، وخصوصًا عند مواجهة عدو أقوى: «كان الشيعة في جبل عامل إذا اشتد الضغط عليهم وتعذّر عليهم التخلُّص من أخصامهم، وغُلبوا على أمرهم بوفرة الجند وقلة الأنصار، يلجؤون إلى حرب العصابات والحيل الحربية ومفاجأة العدو في سواد الليل».
أما المؤرخ اللبناني ياسين سويد، فيعكس في كتاب «صفحات من تاريخ جبل عامل» (دار الفارابي، 1979) صورة لمجتمع منظم عسكريًا يدافع عن هويته الثقافية والدينية: «كان لكل مقاطعة من مقاطعات جبل عامل راية خاصة يلتئم المقاتلون حولها، الا أن الاتحاد بين هذه المقاطعات كان تامًا ومتينًا، وخاصة في زمن الحرب وأوقات الخطر، فإذا هوجمت إحداها هبّت المقاطعات كلها هبّة واحدة، واتحدت كلمتهم على صدّ المعتدي بقوة السلاح وكانت راياتهم من نسيج حريري أخضر وأحمر، وقد طرز عليها بالنسيج الأبيض آيات قرآنية وعبارات دينية مثل نصر من الله وفتح قريب، أو لا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا فتى إلا علي ولا سيف إلا ذو الفقار، وكانت راياتهم تتقدم جيوشهم في أثناء القتال».
كما يُقدّم الكتاب صورة شاملة عن أساليب التعبئة، والأسلحة المستخدمة، وتكتيكات القتال، والقدرات الصناعية العسكرية. يظهر مستوى عالٍ من التنظيم والاستعداد العسكري، بالإضافة إلى قدرة على الإنتاج المحلي للذخيرة. كان العامليون يطلقون النار عندما يريدون تعبئة المقاتلين «إذا سمعوا طلقًا ناريًا في إحدى قراهم، أجابوا بإطلاق الرصاص طلبًا للنجدة، وتتبعهم في ذلك القرى المتصلة حتى يمتد الصوت على ما قيل من جباع في سفح لبنان إلى البصة على حدود عكا. أمّا أسلحة المقاتلين، فكانت في معظمها البنادق والسيوف والخناجر والرماح، وكانوا يقاتلون مشاة وفرسانًا، وكانوا يتحصنون في القلاع مستخدمين النار المحرقة وبعض أنواع المدافع والبنادق. أما عدد المقاتلين في جبل عامل في ذلك الحين، فلم نعرف له رقمًا محددًا، وإن كنا نعلم أنّ هذا العدد قد بلغ في عهد التحالف العاملي مع الشيخ ظاهر العمر، أي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، نحو عشرة آلاف مقاتل. وقد عرف العامليون صنع الذخائر كالبارود الذي اشتهرت بصنعه قرية بيت ليف العاملية».
في مقاطع أخرى، يذكر الكاتب الحصون والقلاع التي ميّزت الجغرافيا العاملية وجعلت منه أرضًا منيعة: «وكان جبل عامل منذ القدم منطقة حصينة ومنيعة أُنشئت فيها قلاع وحصون عدة تعهّدها العامليون باستمرار، وإن لم يكونوا قد بنوها بأنفسهم، ولا بد من سرد أسماء هذه القلاع لإظهار مدى أهمية هذا الجبل من الوجهة العسكرية لدى جميع الفاتحين، نذكر قلعة الشقيف الشهيرة أو قلعة أرنون، وقلعة ابي الحسن، وقلعة هونين، وقلعة شمع وقلعة دوبيه وقلعة تبنين».
لا ينسى الكاتب أن يذكر بعض التقارير الديبلوماسية الفرنسية التي تصف القدرات العسكرية والشخصية للعامليين، فيورد رسالة قنصل فرنسا شوفالييه دو توليس إلى الدوق ديغييّون، وزير الدولة الفرنسي (بتاريخ 2 حزيران/ يونيو 1772) مقدّمًا شهادة جيدة بحق العامليين ومنوهًا بشجاعتهم: «يستطيع المتاولة أن يقدموا ما بين 5 أو 6 آلاف مقاتل، وقد تلقوا الأوامر بأن يكونوا على أهبة الاستعداد للسير نحو العدو. إنّهم شجعان وانتصاراتهم الأولى، بالإضافة إلى القيادة التي تعوّدوها منذ عام (الحديث هنا عن القائد ناصيف نصار) أعطتهم ثقة بالنفس هي بالتالي قيمة الشجاعة. كما أنّ قنصل فرنسا في صيدا تيتبوت في معرض إجابته عن بعض الأسئلة المتعلقة بأوضاع الطوائف في هذه البلاد عام 1806، وصف العامليين بأنهم جنود جيدون».
إنّ الشخصية العسكرية العاملية، كما يتضح من سجلات التاريخ والشهادات المختلفة، هي نتاج قرون من المقاومة والصمود في وجه التحديات. من مقاومة الصليبيين إلى مواجهة التهديدات المعاصرة، ظلّ أبناء جبل عامل أوفياء لتراثهم النضالي، محافظين على روح المقاومة والتضحية. هذا الإرث العريق من الشجاعة والتنظيم العسكري المحكم، والقدرة على التكيّف مع مختلف الظروف، يستمر في تشكيل هوية المنطقة وسكانها. واليوم في خضم العدوان الصهيوني على لبنان، يقف أبناء جبل عامل مرة أخرى في طليعة المدافعين عن الأرض والأمل، كل الأمل، معقود على سواعد المقاومين لردع العدو وإيلامه.