موظفو BBC يحاكمونها: صوت «إسرائيل»!

post-img

وقّع أكثر من 100 موظف في «هيئة الإذاعة البريطانية»، بالإضافة إلى أكثر من 230 من العاملين في مجال الإعلام، رسالة مفتوحة موجهةً إلى المدير العام للهيئة، تيم ديفي. انتقدت الرسالة تغطية «بي. بي. سي» للحرب على غزة، مشيرةً إلى أنّها تميل لمصلحة "إسرائيل"، داعيةً المؤسسة الإعلامية إلى الالتزام مجددًا بمعايير الصحافة التي تشمل «العدالة، الدقة، والحياد». ونشرت هذه المبادرة حصريًا على موقع «إندبندنت» الأسبوع الماضي، في وقت تستمر فيه آلة القتل الصهيونية في حربها على قطاع غزة ولبنان

تتهم الرسالة «بي. بي. سي» بعدم الالتزام بمعاييرها التحريرية وبفشلها في تقديم تغطية متوازنة ومبنية على الأدلة حول غزة. وحثّ الموقعون على الرسالة، «هيئة الإذاعة البريطانية»، على إدخال تغييرات عدة في تغطيتها، مثل توضيح عدم تمكّن الصحافيين الخارجيين من دخول غزة، وتأكيد المسؤولية في العناوين عندما تكون "إسرائيل" الطرف المتّهم، وإضافة سياق تاريخي مستمر يعود إلى ما قبل تشرين الأول (أكتوبر) 2023. وقد وقّع على الرسالة عدد من الشخصيات المعروفة، مثل وزيرة الخارجية البريطانية السابقة البارونة سعيدة وارسي، والممثلة جولييت ستيفنسون، في محاولة لإبراز الدعم الواسع لتحقيق تغيير في معايير التقارير الخاصة بـ «بي. بي. سي».

نقلت الرسالة مخاوف بشأن ما وصفته بتغطية «غير إنسانية»، مشيرة إلى أمثلة محددة لمقالات لم تحمّل إسرائيل مسؤولية مباشرة. وذكرت مثلًا حالة الطفلة هند رجب، الفلسطينية البالغة ستّ سنوات التي قُتلت على يد القوات الإسرائيلية. لكنّ عناوين أخبار «بي. بي. سي» لم توضح أنّ إسرائيل هي الطرف المسؤول عن قتلها. واعتبر الموقعون أنّ هذه الحالات تسهم في سرد مغلوط لا يعكس تعقيدات الواقع، وقد يؤدي إلى نفور الجمهور الباحث عن تقارير دقيقة وشفّافة.

واجهت «بي. بي. سي» سابقًا اتهامات بالتحيّز، وخصوصًا في أوقات الحروب. ويبدو أنّ الموظفين يشعرون بخيبة أمل متزايدة تجاه ما يرونه من انحياز في المؤسسة. وقد غادر بعض الموظفين الشركة بسبب «مستوى الثقة المتدني» وخوفًا من انتقام قد يواجهونه بسبب انتقاد قراراتها التحريرية. وعبّر أحد الموقعين المجهولين عن قلقه قائلًا: «لديّ زملاء غادروا «بي. بي. سي» في الأشهر الأخيرة لأنهم لا يعتقدون أنّ تغطيتنا لإسرائيل وفلسطين صادقة». ويعكس هذا الشعور أجواءً من عدم الثقة داخل المؤسسة، إذ يشعر الموظفون بالعجز في مواجهة ما يصفونه بتغطية غير متوازنة.

في معرض ردها على هذه الاتهامات، أكدت «بي. بي. سي» على «التزامها بالحياد، والشفافية، والمعايير التحريرية العالية». وأشار متحدث باسم المؤسسة إلى التحديات التي تواجهها في تغطية «إحدى أكثر القصص استقطابًا» في الوقت الحالي. وذكر أنّ القناة «تتلقى مستويات مماثلة من الانتقادات التي تدعي التحيز لمصلحة طرف ضد الآخر» من الأطراف المتنازعة، وهو ما تعتبره «مؤشرًا على التوازن في تغطيتها». وأكدت الهيئة كذلك على أنّها تسعى إلى توضيح القيود التي تواجهها، مثل عدم إمكانية الوصول إلى غزة وبعض المناطق في لبنان، مع بذل كل الجهود لتقديم تغطية شاملة. وأصرّ الموقعون على الرسالة على أن التغييرات الهيكلية ضرورية لاستعادة ثقة الجمهور.

بالتوازي، سارع الإعلام العبري للتصديق على ردّ «بي. بي. سي» على الرسالة والاتهامات بالتحيّز، عبر تقرير نشرته صحيفة «جيروزالم بوست»، أعاد التذكير بأن «بي. بي. سي» خالفت معاييرها التحريرية أكثر من 1500 مرة في تغطية الصراع، قائلة إنّ القناة ربطت إسرائيل بالإبادة الجماعية أكثر بمرات عدة مقارنة بـ «حماس». ويرى الإعلام الإسرائيلي، كما جاء على لسان باحثين ومحللين أمثال تريفور أسيرسون ويوسف حداد، أن «بي. بي. سي» تتعمد تقديم "إسرائيل" بشكل سلبي، وخصوصًا في النسخة العربية، وتُبدي تفضيلًا لإظهار وجهة نظر خصوم إسرائيل على حساب الحقيقة، ما يعتبرونه دليلًا على تحيز متجذر ضد إسرائيل. أي عمليًا، اتهمت إسرائيل أيضًا «بي. بي. سي» بالتحيّز، في محاولة لإظهار أنّ القناة البريطانية تعاني من انتقادات من الطرفين كما جاء في رسالتها، ما يخفف عنها سخط الناس وتبعات استياء العاملين لديها.

لا تستهدف الرسالة «بي. بي. سي» وحدها، بل تنتقد أيضًا شبكات إعلامية بريطانية أخرى مثل «آي. تي. في» و«سكاي» بسبب تغطيتها للحرب على غزة. ويشير هذا الاستياء الواسع إلى وجود حالة عامة من عدم الرضى داخل قطاع الإعلام، مع دعوات الصحافيين والجمهور إلى إعادة تقييم السياسات التحريرية عبر عدد من الشبكات. كما يُستشهد بغياب التغطية الحية لقضية الإبادة الجماعية التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية.

تمثل الرسالة المفتوحة التي وقع عليها موظفو «بي. بي. سي» وغيرهم دعوة إلى التغيير، وتؤكد على أهمية التقارير المتوازنة والمبنية على الحقائق في أوقات الصراع. لكن في الحقيقة، هناك أزمة أوسع وأعمق في مصداقية الإعلام الدولي، وخصوصًا عند تغطية النزاعات في البلدان الرازحة تحت الاحتلال وأذرع الاستعمار العسكرية. لا تتعلق هذه الأزمة فقط بنقل الحقائق، بل تعكس خضوع المؤسسات الإعلامية الكبرى لضغوط سياسية واقتصادية تجعلها عاجزة عن تقديم تغطية عادلة وغير منحازة. فالكثير من وسائل الإعلام الدولية ترتبط بمصالح دولية وقوى عظمى تُحاول تلميع صورتها على حساب الشعوب المضطهدة، ما يخلق انحرافًا في سردية الصراع وتغليبًا لوجهة نظر الدول القوية. وتضع هذه المؤسسات نفسها في مأزق أخلاقي عندما تُقدم روايات مجتزأة وتُضحّي بالدقة من أجل الحفاظ على علاقاتها مع الحكومات والنخب التي تُمثل مصالح الاستعمار الحديث. وما يزيد الطين بلة، أنّ الجمهور الواعي أصبح على دراية بهذه الانحيازات، ما يزيد من انعدام الثقة بوسائل الإعلام التقليدية ويُثير تساؤلات حول الدور الحقيقي الذي تلعبه في تشكيل الرأي العام.

لقد أدت هذه التحولات إلى انقسام عالمي في استهلاك الأخبار، إذ يتوجه الناس إلى وسائل إعلام بديلة ومنصّات غير تقليدية لاستقاء المعلومات، هربًا من النمط الأحادي الذي تفرضه وسائل الإعلام الكبرى. وتبقى الشعوب الرازحة تحت الاحتلال والنزاعات هي الضحية الأولى لهذه الأزمة، إذ تضيع معاناتها بين الروايات المتضاربة، وتظل الحقيقة رهينة لمصالح القوى الاستعمارية وأجنداتها الخفية.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد