لماذا دعم ممثل في وزن ميل غيبسون رجلًا في مواصفات دونالد ترامب للرئاسة في الولايات المتحدة؟ ربما كانت الذكورية الفجة في شخصيته هي السبب، فعبادة القوة الباطشة، والمزاج المغامر الذي لا يقيم وزنًا أو حسابًا لشيء، من بين أسباب كثيرة قد تفسّر دعم غيبسون وسواه لترامب. على أن القصة ليست هنا بل في هوليوود التي تلقت ضربة قاصمة بعودة ترامب إلى البيت الأبيض، وهي التي سخر رموزها منه، ووصفوه بأسوأ الصفات، هل تتذكرون شتائم روبرت دي نيرو؟
في انتخابات العام 2016 التي فاز فيها ترامب على هيلاري كلينتون، كانت هوليوود موحّدة ضد الرجل الذي يدين بشهرته المدوية لا لثروته وحسب، بل لبرنامج تلفزيوني كان يقدّمه آنذاك، ما يعني أنه زميل مهنة مفترض وليس عدوًا. إلا أن ما تسمى النزعات الليبرالية لدى هوليوود، ما كان لها أن تحضن رجلًا مثله في رقصة تانغو قصيرة على مسرح الانتخابات التي تبهر أضواؤها العالم.
لقد شُتم علنًا في حفلات الأوسكار و"غولدن غلوب"، وتحوّلت تجمعات نجوم السينما وصناعة الترفيه الأميركية إلى استعراضات هجاء وازدراء للرجل ذي الشعر الأصفر المحاط بنسائه الجميلات. ولم يَسلم شيء منه من ألسنتهم، فحتى ربطات عنقه التي كان يتعمّد أن تكون طويلة خضعت لتحليلات ساخرة، وإنْ كانت لمّاحة، فإذا هي رغبات جنسية فاجرة وذكورية فجة تسعى إلى إخضاع الآخرين.
ها هو يعود، ولكن أي عودة؟ على جثة واحدة من الصناعات الأميركية الثقيلة. توفر هوليوود نحو 2.7 مليون وظيفة، في نحو 240 ألف شركة في مدن البلاد وبلداتها، وتدفع ما يقارب 242 مليار دولار أجورًا سنوية، والأرقام من "لوس أنجليس تايمز".
وقبل ذلك وبعده، فإنها تقدّم للولايات المتحدة ما هو أكثر أهمية من الأجور. لقد قدّمت لأميركا صورتها التي بُنيت على مدار عقود، بكثير من الذكاء أحيانًا، للعالم، فإذا هي بلاد الحريات والعلوم والقوة التي لم تقدم البشرية نموذجًا يرقى إليه، وهي الصورة التي ساهمت في هزيمة أولئك الخصوم الذين حاربوها بالأيديولوجيا والأساطير والاقتصادات البدائية والآسيوية.
لم يفعل هذا روجر مور أو شون كونري وبيرس بروسنان الذين ما فتئوا ينقذون العالم من الأشرار بمسدساتهم ووسامتهم، بل آخرون كثر، فهوليوود لم تكن "جيمس بوند" فقط، بل "المواطن كين" أيضًا، و"الأب الروحي" و"جمعية الشعراء الموتى" و"طيران فوق عش الوقواق". كانت المختبر الأكبر في القرن العشرين، بعد الفلسفة والرواية، لأعقد الأفكار والمشاعر والنزعات الإنسانية لتجاوز الشرط البشري الذي يحبس الإنسان في سجون لا تنتهي من الإكراهات.
لم تكن هوليوود الأثرياء المغامرين الذين قدّموا لنا صناعة السينما والترفيه بل الفلسفة والرواية أيضًا، سكوت فيتزجيرالد وهيمنغواي وكونراد وشتاينبيك، وليس انتهاء بتشارلز بوكوسكي.
غامَرَت بفضل كتّاب عظماء ومخرجين بمواهب باهرة، وتجوّلت في عتمة الإنسان، في أشواقه وتطلعاته، في انتصاراته وهزائمه، لم تكن جيمس بوند وحسب، بل "بيردي" وجاك نيكلسون بنظرات الشيطان وهشاشة الأطفال ونزعات الإنسان وهو يصارع لتجاوز شرطه الإنساني وإكراهات الوجود نفسه. وفي رحلتها هذه لم تترك بقعة صغيرة ومعتمة إلا وحدّقت فيها، كما فعلت ما هو أقل من ذلك بكثير، فقد سخرت من كل شيء، من الأفكار والمعتقدات والشعوب والأمم والتطور والتقدم والرجوع والرؤساء، وها قد رجع إليها من سخرت منه طويلًا.
صوّتت بيونسيه وتوم هانكس وتايلور سويفت وليدي غاغا وأوبرا وينفري وغيرهم ضده، ووقفوا مع منافسته كامالا هاريس، بينما اكتفى هو بميل غيبسون والرياضيين ومن يُسمون المؤثرين، ورغم ذلك فاز.
هل سينتقم؟ نعم؟ ليس هنا مجال الحديث عن أسباب هزيمة هاريس وهوليوود، فأكبر مجمع لصناعة السينما والترفيه في العالم قاطبة مقبل على سنوات صعبة، ومن أسباب ذلك رغبة ترامب بالانتقام منها ومن سواها، وحربه المحتملة مع العالم كله في مجال التعريفات الجمركية التي قد تقلّص السوق الخارجي لهوليوود، إضافة إلى خطط محتملة لخفض الإعفاءات الضريبية الخاصة بصناعة الترفيه، ما يعني ارتفاع تكاليف الإنتاج؛ ثم إنها عدو، فلماذا يمد لها يدًا وهي تغرق، في زمن اليوتوبيرز والمؤثرين وتايكونات وادي السيليكون الذين دعموه بسخاء؟