هذا المقال أو التحقيق أدناه، يعود تاريخه إلى بداية السبعينيات من القرن الماضي، والذي يوثق صاحبه من دون أن يعلم أن تحقيقه هذا سيصبح دليلًا ساطعًا على إهمال الدولة اللبنانية وجيشها الدفاع عن الجنوب وأهله من الاعتداءات الإسرائيلية التي كانت شبه يومية، من قتل وتدمي وأتلاف للمحاصيل الزراعية..والناس الفقراء كانوا يأملون من نوابهم أنذاك النظر بعين الرحمة والاهتمام ولكن في كل مرة كان يخيب أملهم، ولكن مع كل ذلك تستغرب عزة النفس عند هؤلاء وكبريائهم وعنفوانهم، والتي على ما يبدو أورثوها لأجيال اليوم..
ثم ما يزالون يقولون لنا "سلّموا سلاح المقاومة والجيش يدافع عنكم؟...والمرء لا يلدغ من جحر مرتين..
إليكم التحقيق المذكور :
أمّا الدولة فتسألنا عن هوياتنا فنفتش عنها بين الأنقاض فلا نجدها !!
بقلم : خليل نعوس - محرر الاخبار » البيروتية
٢٨ حزيران ١٩٧٤
تحت هذا العنوان الذي ينقط مرارة كتب خليل نعوس تحقيقًا صحفيًا، في مجلة الأخبار اللبنانية، عن آثار الغارات الإسرائيلية المدمرة على جنوب لبنان في الربيع الفائت والتحقيق اتهام صارخ لهمجية الاعتداءات الإسرائيلية التي تطلقها الشهوات التوسعية وإدانة لسياسة التخاذل والإهمال الرسمية التي تتذرع بها حكومة لبنان، وهي تظن أنها بذلك تتقي شرور وغضب العدو الصهيوني المتربص بلبنان سوءًا.
هي فوق هذا وذاك قصة شعب يتشبث بأرض ضرب جذوره بعيدًا في أحشائها، ويعلن صموده للتجربة المرة جوابًا مفحمًا على الفلسفة الانهزامية التي تنطلق من صالونات السياسيين والرسميين في العاصمة اللبنانية تسويغًا للتخاذل وعدم المقدرة على رد الاعتداءات الإسرائيلية.
قبل أن يسترسل الكاتب في وصف اثار القصف والتدمير، يروي عن المعنويات العالية والصمود الذي يميز فلاحي الجنوب، وكيف يحتفل القرويون في قرية كفركلا بالأعراس على بعد أمتار معدودة من خط الموت، حيث تنصب "إسرائيل" مراكز مراقبة عسكرية على التلال المشرفة على الحدود وتتحكم بواسطتها بـــــ ۱۲ قرية لبنانية يعد مكانها أكثر من ٢٠ ألف نسمة، وتستطيع بسهولة أن تعزل هذه القرى عزلًا تامًا عن لبنان. يقول إن أول قرية تضررت من العدوان كانت الطيبة، بلدة رئيس مجلس النواب كامل الأسعد. وقد نسف الإسرائيليون فيها حيًا بأكمله (١٤ منزلاً) يقع على بعد أمنار من قصر البيك الذي لم يمسه الإسرائيليون بأذى.
فسر أحد شبان البلدة الموقف بقوله إنها محاولة خبيئة من جانب "إسرائيل" لتحريضنا على المقاومة الفلسطينية؛ وربما اختاروا بلدة البيك بالذات لإعطائه مع نوايه حجة أقوى لمواصلة التحريض وبثّ روح العداء ضد الفلسطينيين بين أبناء الجنوب. ولكن خاب ظنهم ، فأبناء القرية يعرفون من هو عدوهم. ثمّ يصف ألم القروبين وهم يرون جنى العمر بتناثر مع حطام منازلهم، وها هو أحدهم يروي أحداث الليلة الرهبية؛ فيقول :
"قرع الاسرائيليون الباب بقوة، وحينما فتحنا لهم، وجهوا وشاشاتهم إلى صدور أطفالنا الستة، وكذلك فعلوا مع عائلة شقيقي، ومنعونا من أخذ سيارتنا التي تشكّل مورد رزقنا، ونسفوا كل شيء ... نسفوا بيتنا الذي نعيش فيه منذ ٣١ عامًا ، ولم يبق منه إلّا لوح من تنك قائم على خشبة بنيت تحته الآن في العراء ..". وأردف يقول :"لقد فقدنا كل شيء، ولم يعد عندنا ما نلبس به الأطفال أو نطعمهم .. وقد بقينا ١٨ ساعة من دون طعام..ثم حضر المسؤولون وقالوا : الحمد لله .. لا توجد خسائر في الأرواح، وسندفع لكم ٢٠٠ اليرة تعويضًا، وبعض الأغطية الصوفية، وقد رفضنا ذلك". وقالت الزوجة: "کنا نؤثث بيتنا بالتقسيط، ومنذ شهرين اشترينا فرن غاز لمّا تنته بعد من تسديد أقساطه.. وقد تبخّر كل شيء. وبعد ذلك يحاول المسؤولون التصدّق علينا ببعض الليرات، إنّنا نرفض هذه الحسنة ونرفض التسول على أبوابهم".
ويقول قروي منكوب آخر: "لقد شبعنا كلامًا وصورًا من الإذاعة والتلفزيون والجرائد، نريد جيشًا ودولة وحكومة تحمينا من العدوان. لقد كفرنا بكل الزعماء والنواب والمسؤولين.. جاؤونا بالأمس يحاولون تعزيتنا، فرفضنا استقبالهم، اننا نبحث، منذ الأمس، بين الأنقاض عن قميص نلبسه أو حذاء ننتعله أو كسرة خبز نأكلها؛ لأنّ الإسرائيليين أخرجونا حفاة بملابس النوم، وما زلنا منذ الأمس من دون طعام، وعندما حضر المسؤولون طلبوا منا هوياتنا للتعويض علينا، تصوروا أن كل شيء تبدّد في المنزل ، ومع ذلك يصر حضرات المسؤولين على أن نبرز هوياتنا، ونحن نبحث عنها بين الأنقاض على غير طائل..!!.".
لعلّ أغرب ما قيل في تسويغ تقاعس السلطة هو ما جاء على لسان النائب منيف الخطيب عندما قال لأهالي الطيبة المنكوبين: ليس في اليد حيلة، طالما أنّ الدولة عاجزة عن حماية القرى الأمامية، فجاءه الردّ من بعض الأهالي: الدولة عاجزة عن حمايتنا بينما هي قادرة على قمع مزارعي التبغ والعمال والطلاب. وسمع نائب المنطقة المحترم كلامًا أقسى من ذلك وأشدّ، ما اضطره إلى الهرب سريعًا، وأخبر «البيك» بما حدث. وعندما جاء البيك لتهدئة النفوس الثائرة، لم يستقبله أحد من سكان البلدة، فذهب إلى قصره للاطمئنان عليه، وأمضى فيه وقتًا قصيرًا، ثم قفل راجعًا إلى بيروت.
في قرية بليدا قال أحد المزارعين: بالأمس جاء كامل بيك مع بعض نواب الجنوب، وسألنا عن عدد المنازل التي نسفها الإسرائيليون، فقلنا له: منزل واحد، فأجاب كمن يستغرب الأمر: منزل واحد فقط ؟! عندها قلنا له بشكل عفوي: وهل تريد أكثر؟ فأجاب : لو كنت عارفا بذلك لنمت أمس هنا.
قال مزارع آخر من القرية ذاتها: "منذ حرب تشرين الأول لم ينقطع القصف الاسرائيلي عن قريتنا بليدا بعد حادث كريات شمونة، سمعنا من الاذاعة توجيهات السلطة التي تقول: إن على كل مواطن اتخاذ الاحتياطات اللازمة، وإن كل مواطن يتحمّل مسؤولية نفسه. وفهمنا من هذه التوجيهات أن الدولة غير مسؤولة، وأن علينا نحن تحمّل المسؤولية وحماية أنفسنا بأنفسنا، لم أعرف بماذا أجيب زوجتي وأولادي وتساؤلاتهم. في الليل جاء الإسرائيليون ونسفوا بيت علي داود فرحات وخطفوه مع ابنه وشقيقه. وقال آخر: لقد عرض المسؤولون عن مجلس الجنوب إعطاء زوجة علي فرحات مبلغ ٥٠٠ ليرة، فرفضت بإباء وشمم، وقالت: كل ما أريده هو أن يعود زوجي وابني وسلفي، وأردف يقول: لقد قطعنا الطريق على نواب المنطقة ورفضنا استقبالهم، لأننا لا نرى وجوههم إلا في مناسبات كهذه للتعزية.
في قرية محيبيب؛ قال رجل عجوز والغصة تعقد لسانه: "لقد فقدت كل شيء، بيتي وزوجتي وابنتي، وأصبحت وحيدًا في هذه الدنيا. لقد أخرجوني بالقوة من البيت، وحزموا يدي وأشاروا علي أن أذهب بعيدًا، فقلت لهم إنّ زوجتي وابنتي تنامان في القرية، فضربني أحدهم بعقب البندقية؛ وقال: أنت كذاب وعميل للجيش روح من هون .. بكرا الجيش اللبناني بشيلهم من تحت الأنقاض، لم تنفع توسلاتي، ونسفوا البيت عليهما.
قال مواطن آخر: "كان بالإمكان إنقاذ الضحيتين لو توفرت في قرانا وسائل الإسعاف الأولية، فحتى الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي لم يحضر المسؤولون، وعندما حضروا قالوا إنهم سمعوا الخبر من الإذاعة. وتدخل مواطن آخر ليقول: "عندما ينقطع بعض المتزلجين من أبناء الذوات في فاريا، الدولة تجند كل طائرات الهيلوكوبتر الموجودة عندها لإنقاذهم، أما عندنا فإنهم يستكثرون علينا سيارة إسعاف لإنقاذ من بقي فيه بعض الرمق".
يقول مواطن رابع، نسفوا بیته وبيوت أولاده الثمانية، وقتلوا لهم ثمان بقرات: "أین الرأي العام يری بعینیه، ويسمع بأذنيه جرائم إسرائيل هذه. منذ ٢٦ عامًا ونحن نتلقّى ضرب القنابل من جانب إسرائيل، والمسؤولون اللبنانيون يقولون لنا: اصمدوا ! فبماذا نصمد؟ بدوابنا ... أين السلطة ؟ نحن لا نعرف لها ولا للجيش وجهًا إلا متى تعلّق الأمر بضربنا وتأديبنا خدمة لمصلحة شركة الريجي الاحتكارية، ومصلحة الاقطاع السياسي الذي يسعى لإذلالنا وإخضاعنا لنفوذه ومشيئته"..
في بلدة عيترون خطفوا العريس من فراش زوجته، ونسفوا البيت وقالوا لزوجته: لن يعود إلّا بعد عودة الطيارين الإسرائيليين الأسيرين". ويقول مواطن آخر من عيترون: "لقد دمروا المنزل، واتلفوا الحقل ومعه تعب وإنتاج السنة الماضية من دون أن ندري سببًا لذلك. أما السلطة فلا نحس بوجودها، إلّا عندما يتعلق الأمر بتغريمنا لسبب او آخر. كامل الأسعد مرّ من هنا ليعزينا بخراب منازلنا وليقول لنا أننا مخطئون، وأن ضرب إسرائيل لنا هو نتيجة تحزبنا وتعاطينا السياسة، ولأننا نحمى الفدائيين ونؤويهم في بيوتنا. فقلنا له: هذه مزايدة، وهذا تحريض لن نرضاه، فحاول أحد مرافقيه تأديبنا بسلاحه الحربي لأننا تواقحنا ورددنا على البيك !.."
تقول إحدى النساء من عيترون:" المسؤولون ينامون في قصورهم، ونحن نعيش في حالٍ من الرعب الدائم، وننتظر في كل لحظة قدوم الكوماندوس الإسرائيلي أو الغارات ووقوع ضحايا جديدة"..