الشيخ شفيق جرادي* * رئيس «معهد المعارف الحكمية للدراسات الدينية
والفلسفية»، بيروت- لبنان.
تكثر هذه الأيام العودة عند كثير من الناس إلى حاضنة الروايات والأحاديث التي تتناول أخبار آخر الزمن من ملاحم وفتن.
تتكرر هذه الظاهرة عندما تقع أحداثٌ كبيرة يستشعر فيها الناس بمخاطر على الوجود والهوية. فيلجؤون إلى غيب يستبطن أملًا وفرجًا بخروج منقذ للمظلومين ومقيم لصرح العدالة والحق الذي يرونه يضيع بفعل الحروب والوحشية والفوضى والجريمة. والأكثر إيلامًا لهؤلاء هو شعورهم بالخيبة، إما لفقد رمزية عزة وكرامة، أو لغدر الأيام والجماعات والبلدان بهم، أو غير ذلك. فتأخذهم المشاعر إلى ميادين الرجاء بخلاص غيبي آت، ويسقطون مشاعرهم على المعتقدات، حيث تتحول تلك المعتقدات إلى مسكنات وجع، بدل أن تكون قضايا تحدد اتجاه الحق والباطل، والعدل والظلم، بل بدل أن تُشغل فيهم ثورة عقل يستقرئ الواقع بحقائقه الموضوعية؛ وثورة إرادة حرة ومسؤولة قادرة على تقويم الذات، ومواجهة الأحداث بجدارة الثورة والنهضة.
من صور هذه الأوضاع ما تشهده بعض جماعات جبهة المقاومة الإسلامية بين بيئتها؛ من أن الذي يحصل هو قدر الصراع بين المهدي والسفياني، وأن الله يمتحنّا وكأنه يفرض علينا جزية الولاء للإيمان والمعتقد، وبالتالي فما هو آت سيأتي رغمًا عنّا، ونحن أوراق شجرة الكلمة الطيبة التي عصفت بها ريح القدر في خريف الآلام، ولا حول لنا معها ولا قوة.
هل هذه هي عقيدة المهدي المنتظر (عج) عند الشيعة؟ وهل انتظار المهدي يعني أن لا جدوى من أي موقف سياسي أو جهادي نتخذه؛ لأن القدر وحده هو من سيقول كلمته، ولا كلام فوق كلمة الله العليا؟
روايات الخلاص
بقليل من التعامل مع مرويات يوم الخلاص نصل إلى وجود أنواع ثلاثة من الروايات:
النوع الأول: هو الوعد الإلهي أن الأرض يرثها عبادي الصالحون، وأن الشر مهما استطال فإنّ الغلبة للحق، لذا المحتوم والمؤكد في عقيدة المهدي أنه «يملأ الأرض قسطًا وعدلًا كما ملئت ظُلمًا وجورًا»، وبالتالي فالهدف الرسالي لأي جهاد هو إقامة العدل والحق ومواجهة الظلم والجور، وصولًا إلى تحقيق الانتصار عليه. وهذا الهدف من الواضح أنه إنساني بامتياز لا يميّز الناس وفقًا لمذاهبهم وانتماءاتهم، بل وِفقًا للقيم التي يعملون عليها. فهم إما فسطاط عدل وقسط، وإما فسطاط ظلم وجور. وكن في إيمانك ما تشاء.
النوع الثاني: هو ذاك الذي يختص بمن يؤمن بشخص المهدي، ويريد التحقق من علامات تشير إلى شخصه، وهي روايات قليلة ومحددة.
النوع الثالث: خليط من الإسرائيليات والتمنيات النفسية والتوقعات التي أثارها الناس بفعل ظروفهم النفسية والاجتماعية والسياسية، وهي مكمن الفوضى التي تتكرر عند كل أزمة.
لكن المهم في كل ذلك أن هذه الصنوف الثلاثة ترتبط بالرؤى العقدية والآراء المؤدلجة ولا تمت إلى الإرادات بصلة، فهي تعبر عن إيمان عقائدي بمآلات التاريخ في أفضل أحوالها. وليست هذه التي ترسم خطوات السير نحو تحقيق الغاية العقائدية الإيمانية. وهنا يأتي السؤال: إذّا من يحدِّد مسار حركة إرادة النهوض والتحرك نحو الحرية وإقامة بنيان الحق؟
إنه وبكل بساطة القرآن، وإسلام رسول الله محمد (ص)، وهو المسمّى بتطبيق ما أمر الله به. إنه التكليف الشرعي؛ وكلمة التكليف هي التي تنصبُّ مباشرة على إرادة الفعل؛ أي إنها السياسة، والجهاد السياسي، بمعناه الواسع. فمثلًا صحيح أن تطهير الأرض عقائديًّا سيقع بقيادة المهدي، لكن هذا لا علاقة له بتكليف شرعي هو العمل على تطهير الأرض في الماضي واليوم وغدًا بصرف النظر عن النتائج.
من يحرر فلسطين والعالم؟ أهو المهدي أم الناس؟
قد يقول قائل إنه المهدي، لكن هذا لا يعفي أيّ إنسان من العمل اليوم وغدًا على وجوب تحريرها.
المعتقد يحدد البوصلة، أما الأداء فهو التزام بالسياسة الشرعية التي سنّها رسول الله وآله، وحددها الله سبحانه وتعالى.
في العمل بفعل جهادي، لا انتظار فيه لوعد عقائدي؛ إذ من المحسوم في عقيدة المعتقد بالله أن الله سيحقق وعده، لكن وعد الله هو أمرٌ ألزم الله نفسه فيه. أما نحن فقد ألزمنا الله بالعمل في السياسة الشرعية، حلال محمد حلال إلى يوم القيامة، وحرامه حرام إلى يوم القيامة، لذا قال سيد شهداء الأمة: لو تخلى العالم كله عن تحرير فلسطين فنحن لن نتخلى عنها، والله سيسألنا عن ذلك... ومن هنا، على الإسلاميين من فلسطين وغيرها أن يعرفوا أن المقاومة تنتظر تحقق الوعد الإلهي بخروج المهدي انتظارًا عقائديًّا. أما في سياستهم فهم يعملون بتكليفهم الديني الجهادي وإلى أوسع دائرة ممكنة.
وأقول ممكنة؛ لأن المقاومة الإسلامية تقوم على ركيزتين في مشروع إقامة العدل على الأرض:
الركيزة الأولى: معنوية، إيمانية يُسلِّم لله فيها الأمر ويتوكل عليه.
الركيزة الثانية: عقلانية تحسب للأمور وِفقًا لدوائر الحسابات والسياسات والأدوات والآليات اللازمة في الممكن وغير الممكن، وفي التوقيت والمراجعة والتدقيق.
تحقيقًا للهدف والغاية والمرجو
عندما يتحدث الشيعة أن الانتظار عبادة؛ هم لا يقصدون القعود عن تحقيق الأهداف، بل يقصدون بذلك أن جذوة الأمل مهما طال الزمن وصعبت الأنواء، لا ينبغي أن تنطفئ، بل عليهم أن يثقوا بوعد الله بالنصر المؤزّر وانتظارهم إيجابي في حفظ جذوة الأمل وعدم الإحباط أو اليأس؛ إذ اليأس صنو الشرك بالله من حيث عظيم إثمه، والمهدي وانتظاره عقيدة أمل ورجاء. أما الجهاد فهو تكليف إلهي إما يُستشهد على طريقه المقاومون أو ينتصروا ويحققوا الأهداف، وهذا ما سمّاه سيد شهداء الأمة السيد حسن نصر الله «بالتمهيد لقيام الحجة (عج)». إنه تمهيد بانتصارات هنا وهناك تحقيقًا للنصر الكوني للعدل على الظلم.