أوراق إعلامية

الإعلام في سورية... استهلاك الألم والجراح

post-img

منذ بداية "الحروب المتلفزة"، تغيرت علاقة الإعلام بالصورة جذريًا، وتحولت اللقطة من مجرد وسيلة لنقل الخبر إلى أداة فعالة لتشكيل الوعي الجمعي تجاه الصراعات. صورة الطفلة المحترقة بالنابالم التي شكلت أيقونة حرب فييتنام (1972) أو مشاهد مجزرة ماي لاي (1968) لم تكن مجرد لقطات إخبارية، بل لحظات فارقة في تاريخ الشعوب، ألهبت شعلة الغضب العالمي وأعادت صياغة فهم الجمهور معنى الحرب.

على الرغم من دورها في إيقاظ الضمير العالمي، فإن هذه الصور انجرفت في أحيان كثيرة نحو "التلصص" (voyeurism) وحولت الألم الإنساني إلى سلعة قابلة للاستهلاك. تضاعفت هذه المعضلة مع دخولنا عصر الرقمنة، إذ أصبحت عدسة الكاميرا أكثر تطفلًا وتغلغلًا، تجوب حيوات الناس من دون استئذان، وتُظهر عذاباتهم في سباق محموم لجلب الانتباه.

يُجسِّد الصراع السوري هذا التحدي الأخلاقي بشكل صارخ. فقد كشفت الأسابيع الماضية تباينًا كبيرًا في تغطية وسائل الإعلام هذا الحدث المعقّد. فتعقيد الصراع وحجم المعاناة الإنسانية، إلى جانب تداخل المصالح السياسية، كلها حالت دون استطاعة بعض وسائل الإعلام الارتقاء إلى مستوى الحدث، فانتشرت الأخبار الزائفة واللقطات المفبركة، واختزلت المعاناة في لقطات "فيروسية" لتحصد الإعجابات وتأجج عطش الجمهور للمزيد. في أفضل تجلياتها، تسلط الصحافة الضوء على القصص المهمشة، وتعطي صوتًا لمن لا صوت لهم. وفي أسوأها، تتحول إلى مشهد من جنون الاستعراض.

لقد كان تقرير "تحرير المعتقل" المفبرك الذي بثته شبكة "سي أن أن" الأميركية هو أكثر اللحظات حرجًا للإعلام الغربي وتجسيدًا عمليًا للمرض العضال الذي يعاني منه. دنس هذا التقرير الذي أعدته المراسلة كلاريسا وارد القصص الحقيقية لآلاف المعتقلين السوريين الذين ما زال مصير عدد كبير منهم مجهولًا. عرض هزلي سخر من آلامهم، وحوّل نضالاتهم إلى تمثيلية فارغة. لكن مشهد "السجين" و"محررته" لم يكن معنيًا بالتحرير بقدر ما هو مرتبط بتكريس الهيمنة؛ خيال استعماري جديد يتقمص فيه الغرب دور المنقذ للمستضعفين "الآخرين". كما نبّه الشاعر والكاتب والسينمائي الفرنسي غي ديبور، في كتابه "المجتمع المشهدي" (1967)، فإنّ الصورة ليست مجرّد سلسلة من المشاهد المتلاحقة، بل وسيطٌ يحدِّد أنماط العلاقات الاجتماعية. هنا الصورة واضحة؛ "سجين" من "العالم الثالث"، يُقبّل يد "محررته البيضاء" التي أعتقته من أعتى السجون وأكثرها ظلمًا. هذا النوع من التزييف لا يُشوه الحرية فحسب، بل يستلب معناها ويعيد تشكيلها على هيئة وهم، مستبدلًا التعقيد الإنساني للمعاناة برواية مبسطة ومتعجرفة أبطالها من الغرب.

لم تكن فضيحة "سي أن أن" الإخفاق الوحيد، إذ بلغت تجارة الألم ذروتها مع تغطية تحرير المعتقلات السورية، فتحولت المعاناة الحقيقية إلى استعراض بصري صُمم لجذب الانتباه. اعتمد العديد من وسائل الإعلام تقنيات مستوحاة من أفلام الرعب ذات الميزانيات المنخفضة: موسيقى مظلمة، وإضاءة درامية مبالغ فيها، ومشاهد دموية يعاد تمثيلها برداءة داخل استديوهات.

في "الالتفات إلى ألم الآخرين"، تقول الروائية والناقدة الأميركية سوزان سونتاغ: "هناك عنفٌ متأصّل في كلّ استخدامٍ للكاميرا، تتحول فيه العدسة من أداة للكشف عن الحقيقة إلى وسيلة استغلال تُفقد الضحايا إنسانيتهم وتحولهم إلى أدوات مجردة". في سبيل القصة الجيدة، تحول الآباء والأمهات والأطفال إلى شخصيات هامشية في رواية بصرية كئيبة، هدفها إثارة الصدمة لا التوعية. عنف المشهد وسهولة الفرار منه بفيديو قصير آخر أقل كآبة، أنتج جمهورًا سلبيًا، مُخدرًا بفعل الإفراط في التعرض، ومنفصلًا عن الواقع الذي يستهلكه بكبسة زر.

مع دوران العجلة، توالدت الصور المفبركة، والعناوين المثيرة، ومقاطع الفيديو المزيفة، ما عكر صفو الحقيقة، وحوّل السرديات الواقعية إلى طوفان معلوماتي من الزيف والأخبار الكاذبة. لم يعد التمييز بين الواقع وتمثيله ممكنًا، فغرقت الحقيقة في سيل من الأكاذيب، واختلطت قصص الشجاعة بالإدعاء، وانحسر الواقع على حساب الدعاية. خطر الأكاذيب لا يكمن في تشويه الحقائق فحسب، بل في خلق عالم يصبح فيه التمييز بين الحقيقة والباطل غير مهم، وذلك وفقًا للفيلسوفة حنة آرنت، فالكم الهائل من الأخبار الكاذبة لا يتسبب في إرباك الجماهير فحسب، بل يؤسِّس لبيئة انهارت فيها الثقة وتضاءل فيها الاهتمام العام.

أصبح الصراع السوري، والذي يعد بالفعل أحد أكثر الصراعات تعقيدًا في التاريخ الحديث أكثر صعوبة للفهم مع انتشار سرطان المعلومات المضللة، ووجود منصات قليلة فقط لمحاربتها، ومنها "مسبار" و"تأكد".

على هامش المشهد البصري، ظهرت في الأسابيع الماضية كتيّبات إرشادية مخصّصة للصحافيين والعاملين في الحقل الإنساني، تُطلعهم على كيفية التعامل مع ضحايا الاعتقال أو العنف. وعلى الرغم من نياتها الحسنة، فإن بساطتها وآلياتها تكشف أحيانًا أنها نتاج الذكاء الاصطناعي مثل برنامج "تشات جي بي تي". قد تكون النصائح من قبيل "تحدث بهدوء" و"استمع بعطف" مفيدة في ظاهرها، لكنها تختزل تعقيدات الصدمة وتشوه جوهرها، وكأن التعاطف يمكن تقطيره في وصفة سريعة. لا يستهين هذا النهج الآلي بتعقيدات الصدمة فحسب، بل يقيد العمل الإنساني بخطوات عقيمة، تفتقر إلى الحساسية الثقافية والمعرفة النفسية.

ما يفاقم هذه الإشكالية أن هذه "الإرشادات للتعاطف" تعكس عقلية استعمارية متجذرة، لأنها تفترض قدرة القوالب الغربية على تقديم حلول عالمية لكل السياقات الثقافية. تاريخيًا، ارتكزت هذه العقلية على اعتقاد الخبراء الغربيين أنهم يحملون الإجابات الشاملة لمشكلات العالم، متجاهلين التعقيد الفريد لكل حالة إنسانية.

إنّ فشل بعض وسائل الإعلام في تغطية الحدث السوري بإنصاف وعمق ليس استثناءً، بل يعكس عطبًا عميقًا يعتري الصحافة اليوم. في زمن تُحركّه نسب المشاهدة ونقرات الإعجاب، تضيع المبادئ الأساسية لنقل الحقيقة، ويُساء توظيف الصورة أكثر من أي وقت مضى. يبقى السؤال: هل يمكن للإعلام أن يستعيد جوهره الإنساني ويعيد تعريف دوره في نقل الحقيقة؟ هذا التحدي يتطلب صحافة، وصحافيين مترفعين عن الاستعراض، ينقلون القصص بعمق وحساسية من دون تجاهل الألم أو تشويهه.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد