من «عدو الشعب» إلى الانبطاح الكلّي لدونالد ترامب! سار مارك زوكربيرغ على درب إيلون ماسك وخضع للترامبية، معيّنًا دانا وايت، حليف ترامب، في مجلس إدارة «ميتا». فماذا يعني ذلك؟
قبل الخوض في التفاصيل الحالية، من المهم فهم الخلفية التي أدت إلى توتّر العلاقة بين الرئيس المنتخب دونالد ترامب ومؤسس فايسبوك مارك زوكربيرغ. أثناء مدة رئاسة ترامب الأولى، كانت هناك اتهامات متكررة من قبل الرئيس ترامب بأن منصات التواصل الاجتماعي، وخصوصًا فايسبوك، تتحيز ضد المحافظين وتحذف أو تقلّل ظهور المحتوى اليميني. في تلك المدة، لم يترك ترامب فرصة إلا واتّهم كل منصات التواصل بأنها «الذراع الرقمية» للحزب الديموقراطي، وهدّدها مرارًا وتكرارًا بتعديل المادة 230 التي تحمي المنصات من مسؤولية ما ينشر عليها من محتوى. ترامب، الذي كان يعتمد بشكل كبير على السوشال ميديا، وخصوصًا تويتر للتواصل مع مؤيديه، اعتبر أنّ فايسبوك ومنصات أخرى تُسكت الأصوات المحافظة، بل إنه وصف فايسبوك بأنها «عدوة الشعب» في مناسبات عدة.
هذه الاتهامات لم تكن مجرد كلمات عابرة، بل جزءًا من حملة أوسع ضد ما يسمّى بـ «التحيّز اليساري الليبرالي» في وادي السيليكون. رأى ترامب وحلفاؤه أنّ شركات التكنولوجيا الكبرى، بما في ذلك «ميتا»، تقف في وجه حرية التعبير وتفضّل الأجندات الليبرالية. وصلت هذه التوترات إلى ذروتها في الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2020، عندما اتهم ترامب فايسبوك بتضييق الخناق على حملته الانتخابية.
بعد سنوات من العلاقات المتوترة، بدأ زوكربيرغ باتخاذ خطوات لتحسين العلاقة مع ترامب وحلفائه. هذه الخطوات لم تكن عفوية، بل جزءًا من إستراتيجية لضمان بقاء «ميتا» في صدارة المشهد التكنولوجي والسياسي. إحدى أبرز هذه الخطوات وأحدثها كانت تعيين الرئيس التنفيذي لاتحاد UFC وحليف ترامب البارز، دانا وايت، في مجلس إدارة «ميتا».
وايت، الذي يُعتبر إحدى أكثر الشخصيات تأثيرًا في عالم الرياضة والترفيه، كان داعمًا صريحًا لترامب في حملته الانتخابية الأخيرة، بل إنه ظهر في الفيديو الأول لترامب على منصة تيك توك، ما ساعد في تعزيز صورة الرئيس السابق بين الناخبين الشباب. ويعتبر تعيين وايت في مجلس إدارة «ميتا» خطوةً ذكية من قبل زوكربيرغ، إذ إنّه لا يعزز العلاقات مع ترامب فقط، بل يضيف أيضًا شخصية ذات خبرة واسعة في بناء العلامات التجارية والترفيه.
ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض واستعداد الحزب الجمهوري للهيمنة على الكونغرس بمجلسيه، يجد زوكربيرغ نفسه أمام ضرورة ملحّة لبناء جسور مع هذه القوى السياسية الصاعدة. هذه الخطوة ليست فقط محاولة للتعامل مع الضغوط السياسية التي يمارسها ترامب نتيجة تاريخ «ميتا» السيّئ معه، بل ترى فيها «ميتا» إستراتيجية لتعزيز موقع الشركة في خضم المشهد السياسي والتكنولوجي المتغير.
في الوقت نفسه، ورغم استغلال ترامب شعبية إيلون ماسك الكبيرة في حملته الانتخابية الرئاسية، فإن العلاقة بين الرجلين لم تسلم من التوترات. فقد بدأت تصدعات تظهر في الآونة الأخيرة، مع تزايد حالات الاستياء من ماسك داخل قاعدة ترامب الشعبية، وخصوصًا بعد سلسلة من التصريحات والمواقف (الأخبار 3 كانون الثاني/ يناير 2025). بل إن بعض المحللين يرون أن تأثير ماسك على ترامب قد يكون أكبر من تأثير ترامب عليه، ما أثار تكهنات حول مخاوف شخصية لدى ترامب من أن تسحب شعبية ماسك الإعلامية البساط من تحت نفوذه السياسي. في هذا السياق، يُصبح انبطاح زوكربيرغ أمام ترامب خطة إستراتيجية تُفيد الطرفين: من جهة، يحصل ترامب على دعم قطب تكنولوجي آخر غير ماسك، ما يعزّز موقفه في مواجهة أي تحديات قد تظهر من داخل قاعدة أنصاره أو من خصومه السياسيين.
من جهة أخرى، يستفيد زوكربيرغ من تقوية علاقته مع ترامب، وخصوصًا في ظل صعود «النظام الرقمي» ودخوله المعترك السياسي بشكل غير مسبوق (الأخبار 28 كانون الأول/ ديسمبر 2024). هذه العلاقة الجديدة يمكن أن توفر لشركة «ميتا» حماية سياسية في مرحلة قد تشهد فيها الشركات التكنولوجية الكبرى المتهمة بالليبرالية مزيدًا من التدقيق والحظ العاثر. ولا يمكن إغفال المنافسة الشخصية بين زوكربيرغ وماسك، التي تجاوزت حدود الأعمال إلى المجال الشخصي. قبل مدة، وصلت المنافسة بينهما إلى حد التفكير في خوض قتال على الحلبة، وحاول دانا وايت وقتها ترتيب نزال بينهما.
إلى ذلك، أعاد تعيين وايت في مجلس إدارة «ميتا»، ظهور فيديو له على منصات التواصل وهو يضرب زوجته ليلة رأس السنة في 2023، داخل نادٍ ليلي في كابو سان لوكاس، حيث ظهر وهو يصفعها. وايت، البالغ 55 عامًا، وصف الحادثة يومها بأنها «تجربة شخصية مروعة» واعترف بأنه لا مبرر لأفعاله، قائلًا: «هذا شيء سأضطر إلى التعامل معه طوال حياتي». وأضاف أن الانتقادات التي تلقاها كانت «مستحقة بنسبة 100%».
واللافت أيضًا هو توقيت تعيين وايت، إذ جاء الإعلان عنه في يوم ذكرى «غزوة الكابيتول» التي وقعت في السادس من كانون الثاني (يناير) 2021، وهو اليوم الذي شهد اقتحام أنصار دونالد ترامب مبنى الكابيتول في واشنطن في محاولة لإبطال نتائج الانتخابات الرئاسية. اختيار هذا التوقيت ليس مجرد مصادفة، بل يحمل دلالات سياسية وإعلامية، لا سيما أنّ الحدث ارتبط بخطاب ترامب الذي اعتُبر تحريضًا مباشرًا، ما دفع أنصاره إلى اقتحام الكابيتول في مشهد غير مسبوق في التاريخ الأميركي الحديث. في تلك المدة، اتخذت شركة «ميتا» قرارًا تاريخيًا بإغلاق حسابات ترامب على فايسبوك وإنستغرام، معتبرة أنّ وجوده على منصاتها يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن والديموقراطية.
تعيين وايت، الذي يكنّ ولاءً قويًا لترامب، يشكّل محاولة الأخير لاستعادة نفوذه الإعلامي والسياسي، ليس فقط عبر الخطاب التقليدي، بل أيضًا عبر التأثير في صناعة القرار داخل الشركات العملاقة التي سبق أن واجهته. ويمكن قراءة هذا التعيين بمثابة رسالة سياسية واضحة من ترامب: لقد انتظرت أربع سنوات لهذه اللحظة، وها أنا أضع شخصًا من رجالي داخل إدارة الشركة التي أسكتتني ذات يوم
في اليوم التالي لتعيين دانا وايت عضوًا في مجلس إدارة «ميتا»، ظهر مارك زوكربيرغ في فيديو للإعلان عن تغييرات جذرية في سياسات الشركة. استهل تصريحاته بانتقاد صريح لعملية تدقيق المحتوى التي كانت تعتمدها «ميتا» بمساعدة جهات خارجية، واصفًا إياها بأنها «متحيزة سياسيًا بشكل كبير» وأنها «أضرت بالثقة أكثر مما أسهمت في بنائها، خصوصًا في الولايات المتحدة». وأشار إلى أن الحكومات والإعلام التقليدي لعبت دورًا محوريًا في فرض «رقابة متزايدة» على المحتوى، وهو ما دفعه إلى تبني إستراتيجية جديدة تهدف ـــ بحسب قوله ــــ إلى تعزيز حرية التعبير. وأعلن أن «ميتا» ستطلق منتجًا جديدًا يُسمى «ملاحظات المجتمع» (Community Notes)، وهو نظام مشابه لما تقدمه منصة «إكس»، ما يمكّن المستخدمين من تقييم دقة المنشورات وتقديم سياق إضافي، بدلًا من الاعتماد على جهات تدقيق خارجية.
وأكد زوكربيرغ أن الانتخابات الأميركية الأخيرة مثلت «نقطة تحول ثقافية» أعادت الأولوية إلى حرية التعبير، مضيفًا أن الشركة ستتوقف عن فرض قيود صارمة على بعض الموضوعات الجدلية، بما في ذلك المنشورات المتعلقة بالمهاجرين والجندر. كما كشف عن نقل فرق الثقة والسلامة والمراقبة الخاصة بـ «ميتا» من مقرها في كاليفورنيا إلى تكساس، في خطوة تهدف إلى «إزالة القلق من تحيز الموظفين» وفقًا لتصريحاته.
لكن هذا الإعلان، الذي بدا محاولة لإرضاء الإدارة القادمة بقيادة ترامب، أثار انتقادات واسعة. فقد اعتبره بعضهم، بمن في ذلك محللون سياسيون وتقنيون، بيان استسلام من زوكربيرغ وتخليًا واضحًا عن القيم الليبرالية التي طالما ارتبطت بـ «ميتا». وأثار نقل فريق الرقابة إلى تكساس، التي تُعد معقلًا لأنصار ترامب خيبة أمل كبيرة بين قبائل المستخدمين على منصات التواصل.