اوراق مختارة

"الفيلم عمل فدائي".. توليفٌ يواجِه تزويرًا إسرائيليًا

post-img

يُمكن مقاربة "الفيلم عمل فدائي" (2024، 78 دقيقة)، للفلسطيني كمال الجعفري، من زاويتين: تحويل الصُور (فوتوغرافية، تسجيلات فيديو أو كاميرا 16 ملم مثلًا)، إلى نصٍّ بصريّ، يروي حكاية، ويؤرشف ذاكرة (أو يُعيد أرشفتها وفقًا للحقّ الفلسطيني)، ويواجِه واقعًا يُريد المحتلّ الإسرائيلي تزوير حقائقه أو تغييبها؛ التنبّه إلى جانب نضاليّ فيه وإنْ بلغة غير نضالية، لكونه نصًّا سينمائيًا يؤكّد نقيض الرواية الإسرائيلية/ الصهيوينة، والتأكيد مستندٌ إلى أرشيف بصري، تسرقه إسرائيل، ذات حربٍ لها على لبنان (1982)، وفي لحظات مختلفة من احتلالها بلدًا وشعبًا وحقًّا، ظنًّا منها أنّ السرقة كفيلةٌ بإلغاء تاريخ بلد وشعب وحقّ.

في الاجتياح الإسرائيلي للبنان (6 يونيو/ حزيران ـ 29 سبتمبر/ أيلول 1982)، ينقضّ جنود إسرائيليون على "مركز الأبحاث الفلسطينية" في بيروت للاستيلاء على أرشيفه كلّه. مشهدٌ في "الفيلم عملٌ فدائيّ" يتضمّن تصويرًا تسجيليًا عن إصرار هؤلاء على ألّا يبقى شيءٌ فيه، ونقل المنهوب إلى إسرائيل فورًا. هذا يُذكّر بـ"ملوك وكومبارس" (2004، 62 دقيقة) لعزّة الحسن، الباحثة فيه عن أرشيف وحدة الأفلام في "منظمة التحرير الفلسطينية"، المنهوب بدوره في فترة الاجتياح نفسه. فالإسرائيلي المحتلّ يريد إلغاءً كلّيًا لأي مادة (مُصوّرة، مكتوبة، مُسجّلة)، تؤكّد حقًّا فلسطينيًا.

الزاويتان تتكامل إحداهما مع الأخرى أيضًا (ربما يرى آخرون وأخريات زوايا إضافية)، فاشتغال الجعفري يؤسِّس حالة سينمائية فلسطينية، تعتمد أرشفة الأرشيف، أو إظهار الأرشيف بلغة تتحرّر من كونه خامًا بحتًا، بابتكارها الأجمل والأفضل والأعمق في توليفٍ يصنع فيلمًا. تجربة سابقة له، بعنوان "صيف غير عادي" (2020، 70 دقيقة)، تكشف مدى تورّطه الجماليّ (والأخلاقي أيضًا)، في تمرين كهذا: عثوره على تسجيلات فيديو من كاميرا مراقبة، يضعها والده في مدخل المبنى حيث يسكن وعائلته (عام 2006)، للإيقاع بمن يكسر زجاج سيارته. عثور كهذا يضع الجعفري أمام امتحانٍ صعب: كاميرا المراقبة تُصوِّر من دون تسجيل أصوات، لكنّ الجعفري يوازن بين صمتٍ كهذا وسرد مقتضب ومكثّف لشعور وتذكّر، والكلام يصف محيطًا أو لحظة أو حالة. حكاية عادية للغاية (كشف فاعل جُرمٍ بسيط كتكسير زجاج السيارة)، تُصبح شهادة سينمائية تجمع الذاتيّ البحت (الجعفري نفسه) بيوميات أناسٍ في بيئةٍ يعرفها لكنّه يُغادرها باكرًا.

"الفيلم عمل فدائيّ"، الذي يُعرض مساء بعد غدٍ الأحد، في النسخة الـ19 (10 ـ 21 يناير/كانون الثاني 2025) لـ"شاشات الواقع: لقاء بيروت للفيلم الوثائقي")، يضع الجعفري أمام تمرينٍ كهذا أيضًا، مع تحدٍّ أكبر وتطلّب أعمق في كيفية توليف كمٍّ من الصُور والتسجيلات البصرية (غالبًا)، لمواجهة سردية إسرائيلية/ صهيوينة مخادعة، بما تملكه (الصُور والتسجيلات البصرية) من "مادة" تؤكّد واقعًا وحقائق. التسجيلات المُصوّرة مُقدَّمة من دون أي اشتغالٍ عليها، إمّا لتحسين جودتها، وإمّا لتنقيتها من شوائب الزمن. تقديمها من دون أي تعديل فني أساسُ نصٍّ بصري، يحافظ على أرشيفٍ يعثر عليه، وإنْ تكن جودته الفنية أقلّ من المتداول حاليًا، وهذه إشارة تقول بواقعية التسجيل/الصورة، مع أنّ لقطات أخرى يتلاعب فيها الجعفري فنّيًا، بأنّ يُلوّن وجوهًا وأجسادًا في وسط الأسود والأبيض، لطمس أشكال ناهبي أرضٍ يريدون نهب كلّ شيءٍ فيها ولها.

يوحي العنوان (الفيلم عمل فدائيّ)، قبل المُشاهدة، بأنّ خطابًا نضاليًا يتضمّنه المُنجَز الأخير لكمال الجعفري، رغم خلوّ اشتغالاته السينمائية السابقة من كلّ خطابية ومباشرة. لكنّ التمعّن بالمرويّ فيه بصريًا، والتأمّل بمحتوى مشغول بحساسية أخلاقية (تحويل الأرشيف أو بعضه إلى أفلامٍ جزءٌ من تحصين الذاكرة من الاندثار، وأساس مواجهة ثقافية ـ فنية لتزوير ـ تغييب ـ إقصاء إسرائيلي لذاكرة وتاريخ)، تترافق وحساسية سينمائية في كتابة حكاية فلسطينية واقعية. الصُور المبثوثة فيه، بعد اشتغال المونتاج (يانغ ويلمان والجعفري) لصُنعه، تؤكّد أنّ "العمل الفدائيّ" ذاك يندرج في أهمية الصورة/الأرشيف في المواجهة اليومية. فالفيلم الأجمل، أي فيلمٍ، يمكنه أنْ يكون نضاليًا من دون خطابية ومباشَرة، بالتزامه السينما كفعل إبداعي أولًا.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد