يوسف م. شرقاوي (جريدة الأخبار)
ما الذي جعل «معهد العالم العربي» في باريس يقيم معرضًا استعاديًا لفنان ليس هناك إجماع على قيمته الفنية، لكنه مسؤول كبير في بلده، إذ يشغل منصب «رئيس المؤسسة الوطنية للمتاحف» في المغرب، وهو رأس حربة التطبيع الفني والثقافي بينها وبين الاحتلال الإسرائيلي؟ هل تعبّر استضافة «فنان» مماثل في ذروة جرائم الإبادة التي كان الاحتلال يرتكبها في غزة ولبنان عن سياسات المعهد وتوجّهاته؟
أُقيم المعرض الاستعادي للتشكيلي الحروفي المغربي المهدي قطبي طوال شهور مجازر الإبادة على غزة وانتهى في الأسبوع الأول من العام 2025، جامعًا نحو مئة عمل أنتجها منذ ستينيات القرن الماضي من لوحات وأعمال غرافيكية ومنسوجات وخزفيات.
مَن يطّلع على التقارير حول قطبي أو اللقاءات معه، يعرف أنّه زار تل أبيب ومتاحفها. وبعد توقيع «المؤسسة الوطنية المغربية للمتاحف» مذكرة تفاهم في العام 2022 مع نظيرتها الإسرائيلية، قال إنّ ذلك يأتي «عقب زيارتي لتلّ أبيب، حيث تعرفت إلى المتاحف الإسرائيلية، ووجدت أنهم يقومون بعمل كبير، ونحن نستطيع أن نتعلّم منهم». وأضاف قطبي في حينه: «متاحف المغرب تحظى باحترام دولي. سنأتي بمعارض إسرائيلية، وستكون هناك اتفاقيات لتبادل المعارض بين البلدين».
العودة بضع سنوات إلى الوراء في تاريخ المعهد، تسفر عن استضافات ومواقف شبيهة، لا بد من الوقوف عندها لإيضاح السياق: قال الإسرائيلي الفرنسي دوني شاربيه، أحد أعضاء اللجنة العلميّة القائمة على معرض «يهود الشرق» المدرج ضمن برنامج مهرجان «عيد اللغة العربية» في العام 2021: «قام «متحف إسرائيل» ومعهد «بن تسفي» في القدس بإعارة نحو عشرين إلى ثلاثين عملًا فنيًا لمعهد العالم العربي في باريس. لذلك، من الممكن القول إنّ هذا المعرض هو الثمرة الأولى لـ «اتفاقيات أبراهام»، وهذا يبدأ عبر التطبيع. نحن لم نعد نخاف من إقامة معرض عن يهود الشرق، ولن تُطبق السماء على الأرض إذا أجرينا تعاونًا مع إسرائيل».
وقتها صدر بيان عن «الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل» جاء فيه: «أما في ما يتعلق بالعلاقات المؤسّساتية التي أقامها معهد العالم العربيّ مع جهات تابعة للحكومة الإسرائيلية أو مؤسسات أكاديمية إسرائيلية متورطة في إدامة منظومة الاستعمار الإسرائيليّ باستعارته قطعًا أثرية من «متحف إسرائيل» ومؤسسة «بن تسفي»، فهي تشير إلى تورّط المعهد في محاولات العدوّ الإسرائيليّ المستمرة لتلميع جرائمه بحق شعوب المنطقة العربية وتوظيف الفن والثقافة والتاريخ في خدمة أغراض سياسية واستعمارية».
وقتها، أطلِقَت عريضة وقّع عليها نحو 250 مثقفًا، جاء فيها أنّ المعهد «يخلّ بواجبه الفكري مع اعتماد هذه المقاربة التطبيعية، وهو أحد أسوأ أشكال السبل الجبرية واللاأخلاقية لتسخير الفنّ كأداة سياسية لشرعنة الاستعمار والقمع». ردّ دوني شاربيه آنذاك باستفزاز، فعاود الكاتب الراحل إلياس خوري الذي كان من الموقّعين على العريضة، الردّ لـ «تصويب النقاش» على حد تعبيره.
نعود أيضًا إلى العام 2019 لنذكّر بأنّ المعهد أضاف «إسرائيل» إلى خريطته في معرض «العلا، أعجوبة العرب». ذكرت صحيفة «لوفيغارو» وقتها أنّ موضوع عدم الإشارة إلى إسرائيل على الخريطة قد أُثير بعد المعرض. وبعد تنبيه الحاخام الأكبر حاييم كورسيا القائمين على المعهد، «صُحِّحت» الخريطة.
نورد كل ذلك لنقول إنّ المعهد ليس فصيلًا فلسطينيًا أو كتيبة كما يخاله الناس، وإنّ مواقفه متأرجحة، رغم أنّ له تاريخًا واضحًا تقريبًا. مثلًا، أقام المعهد أواخر العام 2023 معرضًا بعنوان «ما تقدمه فلسطين للعالم» لإطلاعه (أي العالم) على الإرث الثقافي والفني للفلسطينيين، وكان المعهد قد أصدر كتابًا جماعيًا بإسهام خمسين مثقفًا وكاتبًا وفنانًا قبل ذلك بعنوان المعرض نفسه، باللغة الفرنسية ضمن السلسلة الدورية «عربوراما» بالاشتراك مع دار «سوي» الفرنسية (Seuil).
هذا من جهة يذكّرنا مثلًا بما قام المعهد من أجله العام 1987، وهو «التمثيل العربي في مركز الثقافة الأوروبية»، أي باريس، هادفًا إلى «إقامة حوار بين الغرب والشرق. وفلسطين»، بما أنها من العالم العربي، فإنّ المُناط بالمعهد أن «يمثّلها» أيضًا. وقد حضرت فلسطين عن طريق المعهد في فعاليات ومعارض عدة، آخرها كما ذكرنا المعرض الذي حمل اسمها. لكن حتى هذا المعرض أثار إشكالية على صعيد تنظيمه وتواضعه، ويبدو أنه جاء لاستدراك مسألة معرض «يهود الشرق» التي ذكرناها في البداية.
أحصت مجلة «رمان» الثقافية وقتها مجموعة أخطاء في المطبوعات (منها دليل الزائر)، في إشارة إلى تسرّع الاشتغال على الحدث، كما أحصت أخطاء في التنسيق وحتى التمثيل الفني لفلسطين.
هذا الموقف الإشكالي للمعهد خلال سنوات قليلة، يطرح أسئلة عدة: مَن الذي يحدّد سياسات المعهد وأنماط توجّهه؟ الجهة الفرنسية المسؤولة عنه أو نظيرتها العربية، أو مديره العام؟ وكيف يمكن أن يصبح التمثيل لفلسطين وإسرائيل، أي المستعمَر والمُستعمِر، في آنٍ؟ وكيف يمكن عرض لوحات من متحف «إسرائيل» و«بن تسفي»، ثم إقامة «متحف فلسطيني»؟ ألا يوازي هذا بين الجلّاد والضحية، السيف والرقبة؟ هل تحوّل الحوار بين الغرب والشرق الذي أُقيم المعهد من أجله، وكان واحدًا من غاياته، إلى حوارٍ بين السيف والرقبة؟ أيقوم حوارٌ ثقافي بين المُستعمِر والمستعمَر، أي السارق والمسروق، سيّما في الإنتاج الثقافي ورموزه وأحفورياته؟ بديهيًا، الجواب هو: لا.
هذه الإشكاليات كلّها تضع المعهد تحت المساءلة، أو لا بد من أن ينزع مهمة «تمثيل العالم العربي ثقافيًا» ويقول إنه انتمى إلى المركزية التي يتموضع داخلها جغرافيًا، فذلك على الأقل لا يُدخلنا في متاهات الأسئلة والمساءلة، وتصير الأشياء كلها واضحة.
السؤال الأخير هو: لماذا استضاف المعهد الفنانَ المغربي المهدي قطبي في معرض استعادي؟ لكن ما دام جاك لانغ هو رئيس المعهد، فلا غرابة في هذه الاستضافة. إذ اعتبر لانغ العريضةَ التي وقّعها مثقفون عرب على خلفية معرض «يهود الشرق» «أمرًا تافهًا ومؤسفًا» وأضاف: «لقد أحزنني أن أجد أشخاصًا، بعضهم مميز، من الكُتّاب والفلاسفة، ينجرفون، مثل الأغنام، وراء نصّ لم يتحققوا حتى من صحته». ردّ الراحل إلياس خوري وقتها بمقالة حملت عنوان: «الحوار المستحيل بين الذئب والحمل»، قال فيها: «ما فات السيد لانغ أنّ المثقفين العرب الذين شبّههم بالغنم، يخوضون في بلادهم معركة مقاومة أنظمة استبدادية متوحشة أوصلت العالم العربي إلى الخراب. كما يواجهون تجبّر دول النفط، حيث لا مكان للحرية وحقوق الإنسان، وهي تحاول الاستيلاء على الثقافة العربية، وإفراغها من مضمونها الإبداعي والأخلاقي، عبر تحويلها إلى ثقافة ترفيه واستعراض.
معركتنا يا سيد لانغ ليست معك ولا مع معهد العالم العربي، وكنا نأمل أن يقوم المعهد بتصويب الخطأ الذي وقع فيه، غير أنّ تصريحك الأخير جاء برهانًا إضافيًا على أن هناك مشكلة يجب حلها». ويسأل خوري بعدها: «ما هو الموقف (أي موقف المعهد) من نظام الأبارتهايد الإسرائيلي؟». وختم: «فأن تكون حملًا أفضل من أن تكون ذئبًا». كنا قد أشرنا في البداية إلى هذا الحوار المستحيل، بين الجلّاد والضحية، السيف والرقبة، وحسب توصيف خوري: الحمل والذئب.
استضافة المهدي قطبي قد تكون توضيحًا لموقف المعهد، أو توكيدًا له. الغريب أنّ قطبي كان قد استعان ـــ كما تفيد المعلومات الضئيلة عنه ـــ بكلمات وأشعار إدوار غليسان وإيميه سيزير وجاك دريدا وليوبولد سيدار سنغور (الملقب بـ «الرئيس الأديب») وغيرهم في أعماله الحروفية. لا نعرف إن كان ذلك بعلمٍ منهم أو من دون علم. لكن كلماتهم أُضيفَت إلى «علامات» قطبي البصرية، بحسب توصيف المعهد، في تقرير إما كتبه عن نفسه بنفسه أو كتبته ناتالي بونديل مديرة قسم المتحف والمعارض في المعهد والمشرفة على معرض قطبي.
اختار قطبي أن «يتعلّم» من إسرائيل، لا من هؤلاء. كما حاول أن يؤكد لإسرائيل ـــــ عبر الصور التي التُقِطَت له أو التقطها لنفسه أثناء زيارته لها ـــــ أنه مبهور ومندهش، وأنه سوف يكون تلميذًا نجيبًا ويتعلّم! من الواضح في الصور أنّ الدهشة استولت على فمه، بل جسده كله، فصار يحني ظهره إلى خلف، أو يمشي ويتكلم وهو يدوّر عينيه في إسرائيل، معلّمته، وأمه الرؤوم، كي يقول لها إنه من بطنها.
يقول قطبي عن فنه إنه «تفكيك الكتابة»، لكنه لم «يتعلّم» من مؤسس التفكيكية ما يجب أن يتعلّمه منه، بل اختار عدّو دريدا نفسه معلّمًا. ما الذي يمكن أن يقوله صاحب «أحادية الآخر اللغوية» لو عرف أنّ قطبي هذا صار منتميًا وابنًا وتلميذًا لـ «الدولة الاستعمارية الأخيرة»، وهكذا يسمّي دريدا إسرائيل، وهو صاحب موقف سمّاه «الحلف الدائم مع القضية الفلسطينية». ماذا يمكن أن يرد جاك لانغ وقتها؟ «هذا أمر مؤسف وتافه، وانجراف مثل الأغنام»؟
ألا يؤكد التشبيه الذي استخدمه لانغ مسألة التعالي الكولونيالي في الخطاب، ومسألة الذات العارفة والموضوع القابل للمعرفة؟ هذا الموضوع الذي أشار إليه الفيلسوف حميد دباشي في كتابه من عنوانه الساخر «هل يستطيع غير الأوروبي التفكير؟».
انتمى المهدي قطبي إذن إلى «حالة انتحارية مأساوية لا يمكن الدفاع عنها» وهذا وصف دريدا لإسرائيل. هذا غير إيميه سيزير الذي وقف دائمًا في صف تحرير الشعوب، وصاحب «حوار حول الاستعمار».
صحيح أنّ لليوبولد سيدار سنغور (أول رئيس للسنغال) موقفًا إشكاليًا، إذ زار تل أبيب العام 1971، لكنه تراجع عن موقفه هذا بعد حرب 1973، وقطع حبل الود بينه وبين إسرائيل.
مجازر الإبادة التي ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي في غزة ولا يزال يرتكبها في فلسطين، لم تؤثر في قطبي، بل قرر أن يواظب على دروسه، وألا يتغيب عنها أبدًا، فالوعد بالبقاء تلميذًا نجيبًا يجب أن يُحافظ عليه، ذلك من أجل أن يُستعاد عبر «معهد العالم العربي» في باريس، الذي يبدو أنه لا يقلّ إسرائيليةً عن ضيوفه.