أوراق ثقافية

أيقونات نضالية لشعب «الجبّارين»!

post-img

أسماء فيصل عواد (جريدة الأخبار)

بينما كان أبو عبيدة يعلن عن وقف إطلاق النار والتوصل إلى صفقة تبادل الأسرى في اليوم الـ 471 لحرب الإبادة على غزة، استضافنا محمد زكريا (6198) للتعرّف إلى «جبّار»، مشروع توثيق مبتكر أطلقه في مطلع أيلول (سبتمبر) 2024. تحلّقنا حول شاشة حاسوبه صامتين، نتابع بيان المقاومة، تُجاورنا أيقوناته المحدقة من وراء لثامها.

في ما يشبه إعلان نوايا «حربيًا»، يردّ زكريا على المستفسرين عن «جبّار» بالقول إنه «مشروع يهدف إلى حفظ الذاكرة الجمعية للشعب الفلسطيني، عن طريق تجسيد أيقونات نضاله الشعبي». هكذا أخرجنا زكريا تمامًا من فكرة اللهو بدمى حربية جاءت فكرتها من العصر الفيكتوري والإدواردي، وطوّرها الألمان في الثلاثينيات مع الحرب العالمية الأولى، في تجسيد لحالة استعلاء وهيمنة ذات نزعة توسعية عسكرية، تُعلي من قيمة الجندي الألماني وتمجّده، وتغرس في أطفال الرايخ عنصريةً آرية، لتنطلق فكرتها إلى العالم وتصبح لعبة تجارية تحمل أسلحة غربية وتمثل لإنسان عربي نموذجًا استعماريًا واستقوائيًا دخيلًا. هذا على خلاف «جبّار» الذي هو المقاوم المحلي النابع من شعبنا، الذي يجابه أشرس جيش لا أخلاقي في العالم، بحجره وسلاحه الخفيف في أحسن الأحوال، ثم يعود إلى بيته ليتناول الزيت والصعتر أو المقلوبة ويشرب الشاي. «جبّار» إذن يريد أسطرة الشخص العادي من أمثالنا بتعميق المقاومة البطولية كما هي بلا مبالغات.

يعلّق زكريا أنّ من أهداف مشروعه إعادة تعريف الأسطرة فعلًا، ولفت الانتباه إلى الأساطير المحلية الملحمية القادمة من قصص واقعية لا من خيال هوليوودي. قدّم زكريا نخبة من الجبّارين مثّلوا أيقونات النضال الفلسطيني من ليلى خالد (الأكثر اقتناءً بين النماذج) إلى أبطال الانتفاضتين الأولى مثل ميشلين عواد، والثانية مثل الطفل فارس عودة وهو يرمي حجره في وجه الميركافا، ومعهم أبو العبد بثوبه العربي، والمتربص الممسك بالحجارة، وباسل المتواري خلف لوح الخشب، وأم نضال صاحبة الجملة الشهيرة مخاطبةً الجندي الصهيوني «يا شينك.. تعال تعال». ولا يغيب صابر الأشقر بطل مسيرات العودة على الشريط الحدودي لغزة معتليًا كرسيّه المتحرك، ومعه تغريد البراوي، وعائد أبو عمرو حامل اللواء، وشيرين أبو عاقلة، وملثمي جُمع الكاوتشوك وصولًا إلى ملثمي طوفان الأقصى وأبطاله حمزة المقاتل الأنيق، وحامد مطلق الهاون، وثابت رامي الآر بي جي وغيرهم. يستعين زكريا بمصمّم ألعاب إلكترونية ثلاثية الأبعاد، مؤمن بالفكرة ومنسجم معها، لتصميم النموذج الذي وقع عليه الاختيار ونحته رقميًا، ويستخدم كنى وألقابًا وأسماء ليست كلها حقيقية لتلك الأيقونات، بل منها ما يمثل تكثيفًا للفعل المقاوم الذي صبّه في قوالب خضراء يصل ارتفاع الواحد منها إلى 5 سم أو 21 سم، وبتفاصيل دقيقة تصل إلى الأصابع، والخواتم، وثنيات الملابس، والحقائب، والكوفية، والأسلحة، وجعب الذخائر، وحتى الأحذية ومنها «الشبشب» المعروف بماركة «نابولي» الخليلية، هذه العلامة التجارية التي أصبحت ماركة مسجلة لمقاومي غزة. قدّم صديق آخر مصمّم غرافيكي البوستر الخاص بالمشروع، إضافة إلى تصميم الفيديوهات على السوشيال ميديا، ويشرف زكريا على التصوير والمحتوى المكتوب.

يعد زكريا من الجيل في الأردن الذي كبر في مرحلة تراجع المدّ الوطني بتوقيع اتفاقية أوسلو ومن بعدها معاهدة «السلام» وادي عربة، ونفور (من دون قصد) غالبية اليافعين والشباب من العمل السياسي الذي تراجعت مفاعيله في المدارس والجامعات. إلا أنّ الإيمان بالمقاومة لم يختفِ. يقول زكريا: «لديّ إيمان مطلق بمشروعية المقاومة، وإن تراجعت القضية الفلسطينية إلى الخلف في السنوات الأخيرة، إلا أن 7 تشرين الأول أعادها إلى الواجهة من جديد».

وعلى خلاف ما قد يتبادر للذهن، جاءت فكرة مشروع «جبّار» قبل عامين ونصف عام، وانطلقت شرارته بعد امتشاق الطبيب الشهيد عبد الله أبو التين سلاحه متصديًا لقوات العدو في مخيم جنين عام 2022، ليرتقي بعدها ويصبح أيقونة «الطبيب المشتبك» أو «حكيم الكتائب». يقول زكريا إنّ التضاد ما بين فكرة حمل السلاح وارتداء معطف الطبيب جعله يفكر بـ «رمزية» المشهد. وسرعان ما التقط هذه الرمزية من صور وفيديوهات عدة انطبعت في ذاكرتنا، وعمل على تجسيدها في مجسّمات لرجال ونساء وأطفال لن تخطئهم العين.

يجد «جبّار» مريدين كثرًا بين جيل الثمانينيات وبداية التسعينيات، ويخبرنا زكريا أنّ مقتنيي الجبارين من الأجانب يفضلون رماة الحجارة. أما العرب فيفضلون مَن يحمل السلاح، كأن كل طرف يبحث عن النموذج المفقود لديه. يستطرد في فكرة متصلة ظهرت بعد المشروع مفادها أنّ «جبّار» استطاع بطريقة ما أن يجسد ذاكرة جمعية موجودة لدى الفلسطينيين، وفي الوقت ذاته أحدث ثورةً على مستوى الذاكرة الشخصية لدى كثيرين ممن اقتنوا الجبّارين، وشعروا باستنكار داخلي للعبهم بمجسمات الجنود الغربيين سابقًا.

«جبّار» عن الشعب وللشعب بحسب زكريا. لذلك، فأكثر من نصف ريع المشروع مخصّص لدعم الهلال الأحمر الفلسطيني، ويأمل بأن يحافظ المشروع على استدامته ويتطوّر ويصل إلى كلّ بيت، وقريبًا ستصدر نماذج جديدة من «جبّار» تمثل رموزًا عربية وعالمية دعمت القضية الفلسطينية.

فكرة «جبّار» مبتكرة، لا تشبه الألعاب الرائجة وفقًا لما يقول زكريا، مشيرًا إلى أنّه اكتشف بعد انطلاق مشروعه أنّ الصهاينة يمتلكون مشروعًا مماثلًا بشكل تجاري، يمثل جنود الاحتلال لكنّه يخلو من أي رمزية، بل هو تقليد إسرائيلي للعبة العالمية. يتمنّى زكريا الوصول إلى الشخصيات الحقيقية التي جسّدها «جبّار»، ويقتبس من حديث المناضلة ليلى خالد عندما سألها عن شعورها وهي أيقونة، فأجابت بأنّ ذلك وضع على عاتقها مسؤولية أن تكون على قدر تلك الثقة. يأمل زكريا الذي عمل سابقًا كمبرمج حاسوب وكرّس وقته لصناعة ألواح تزلج تحمل ماركة أردنية عربية، أن يقدر على حماية رمزية الجبّارين حتى تحرير فلسطين.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد