أوراق ثقافية

فيلم «حالة عشق»: سيرة طبيب وإنسان ووطن… ومقبرة أطراف وتوحش العدو

post-img

زهرة مرعي/ القدس العربي

في «حالة عُشق» الفيلم الذي وقعته كارول منصور ومنى خالدي، انصهر العاشق بالمعشوقة، وبات وجوده معها يفتت روحه، وبعده عنها يسحق مشاعره ويلسعها مؤنبًا. ويتكرر أمام ناظريه السؤال والشريط الصامت المُدمّر «عن الإحساس بالعجز؟»

فيلم لساعة ونصف من الزمن مع الطبيب الفلسطيني غسّان أبو ستة الذي رضي أن يحكي عن معشوقته غزّة في آخر ملاحمها الدموية. هي سيرته ومسيرته. حكي غزّة البطلة وجحيمها، وبحر الدماء والأشلاء والأطراف المبتورة. وإذا بنا أمام قصيدة عشق مغايرة لشواهد تاريخية وصلتنا. فيها رفض العاشق وصف البطل ليترك لناس غزّة كل البطولات. «حالة عشق» دخلها عشّاق آخرون. إنها «ديما» زوجته التي اعتادته يُسرع للملمة حاجياته الأساسية ويحمل حقيبته، لينضمّ إلى فريق الأطباء في غزّة.

كانت الفاتحة بالانتفاضة الأولى سنة 1987، وحينها تعارفا. وتوالت الحروب الكبرى على القطاع وصولًا حرب الإبادة. سُئلت «ديما» عن سفر زوجها إلى المكان الأخطر في العالم؟ «إذا ما راح ما بعْرَف كيف بدّي احترمو؟» وابنه الأصغر المراهق لم يشعر بخوف على والده طوال 43 يومًا التي أمضاها في أصعب هجوم يتعرّض قطاع صحي في العالم.

إنها «حالة عشق» وقوة وإيمان مُعدية عائليًا. وغسّان المراهق فاتح والده برغبته وهو بعمر 14 سنة، الالتحاق بدورة تدريب في عدن. غزته جينات عائلية من عمه الشهيد عبد الله وافتخاره به. هذا ما ينسحب على مشهد من الفيلم وغسان أبو ستة برفقة زوجته وأبنائه الثلاثة، في زيارة تأمل لمدافن الشهداء في بيروت. وفيها ثلّة من المناضلين الفلسطينيين اغتالهم الصهاينة في لبنان، بينهم غسّان كنفاني.

«رايح ع غزّة كأنو رايح ع ديزني لاند» تقول «ديما» زوجة أبو ستة. الطبيب الذي ما برح المستشفى خلال 43 يومًا، وفي سردية بليغة الخلاصات والعبر، روى سيرة شعبه ووطنه وأرض آبائه وأجداده، وجذوره العصية على الإقتلاع. وروى اخلاقيات وقيم عالم قرر برمته الصمت على الإبادة.

شهادات حية نقلها تُقارع بعضها بعضًا، وتتنافس للتدليل على نازية وسادية من قرروا الإبادة، ومن نفّذوها. يتساءل: «شو معنى بتقلتو وبتمشي بالدبابة عليه لتطحنو؟» الجواب واضح إنها خلاصة الصهيونية والنازية والسادية، اجتمعت لدى الجيش الأكثر أخلاقية في العالم.

فيلم «حالة عشق» وثيقة غنية للتاريخ. وشهادة تتناقلها الأجيال عن 43 يومًا من غزّة تحت النار. وشهادة للمحاكم الدولية إن واصلت محاكمة منفذي الإبادة. شهادة عاشها أبو ستة بوصفه للأطفال مبتوري الأطراف. تلك الأطراف التي خصصت لها صناديق بحجمها، وحملت اسم صاحبها، ليصار إلى دفنها في مقبرة الأطراف المبتورة.

شهادة من أبو ستة عن زملائه من اطباء وفريق تمريض، وكانوا يُصدمون بوجود ابنائهم أو ذويهم بين الشهداء أو الجرحى بعد كل قصف دامٍ. شهادة عن مواد التعقيم التي نفُذت، وبدائلها. عن التخدير المفقود. عن الأشلاء في الأروقة.. والصراخ والأنين ورائحة الجروح المتقيحة، والدماء المتخثرة… «حالة عشق» فيلم ووثيقة ناطقة من غزّة.

دمّع غالب غسان أبو ستة لأكثر من مرّة، صمت وغصّ لقتل تجاوز حدود احتمال العقل البشري. عن عائلات أبيدت. عن أطفال لم يعد لهم قريب. معايشة لا يتمناها غسان أبو ستة لإنسان.

على الرغم من الكوابيس التي تداهم الطبيب ليلًا، بشهادة زوجته، عبر مرح في مفاصل الفيلم. في منزل عائلته في عمّان حيث والدته، والمشاهد الأولى من الوثائقي. نكشٌ في طفولته ومراهقته وشيطناته. وإلى مجلس العموم البريطاني حضر ليدلي بشهادته بعد سيل جارف من تزوير الحقائق. ومعه رفيقته إلى الحروب ومنها غزّة، إنها الطبيبة «سوي».

ضمد الطبيب العاشق جراح المئات، وعاش آلام المئات، وصعقته قرارات سريعة وحاسمة وضرورية، بالمفاضلة بين جريح سيموت اليوم وآخر في الغد.

يستمر عرض «حالة عشق» في سينما متروبوليس، مار مخايل، بيروت إلى 8 الشهر الجاري.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد