علي القزويني الحُسيني ـ موقع 180
هل الطرح الذي يتبناه رئيس الحكومة المكلف قابلٌ للتنفيذ في لبنان في الوقت الراهن؟ وهل يمكن تشكيل حكومة “غير سياسية” في بلدٍ تتداخل فيه السياسة مع كلّ شيء، حتّى في تفاصيل الإدارة اليومية؟
بين الواقعية السياسية والطموح التكنوقراطي
لطالما كان الحديث عن الحكومات التكنوقراطية في لبنان مرتبطًا بمراحل الأزمات الحادّة، حيث يبرز كحلٍّ نظري لتخفيف الاحتقان السياسي وإدارة المرحلة بأقل قدرٍ من التجاذبات. لكن المشكلة تكمن في أن مفهوم “الاختصاصي غير الحزبي” في لبنان ليس دقيقًا؛ فمعظم الشخصيات ذات الخبرة في إدارة الملفات الاقتصادية والمالية والإدارية مرتبطة بشكلٍ أو بآخر بالقوى السياسية، إما عبر الانتماء المباشر أو من خلال شبكات المصالح والعلاقات التي تجعل الفصل بين السياسي والتكنوقراطي شبه مستحيل.
ما يُطرح اليوم من أسماءٍ لتشكيل الحكومة يؤكّد هذه الإشكالية، حيث إن معظم الأسماء المتداولة تملك خلفياتٍ سياسية غير معلنة، أو على الأقل علاقات وثيقة مع جهاتٍ نافذة، ما يجعل الحديث عن “حكومة مستقلين” أقرب إلى الشعارات منه إلى الواقع. فالمستقلون، إن وجدوا، هم خارج لبنان، كما كان الرئيس المكلف نفسه قبل عودته من الاغتراب بُعَيد تكليفه.
من هنا، يتبدّى السؤال الأساسي: هل يسعى نواف سلام فعلًا إلى تشكيل حكومة إصلاحية تُعيد هيكلة مؤسسات الدولة، أم أن الهدف الحقيقي هو ضرب التوازنات القائمة، خصوصًا في ما يتعلق بـ”الثنائي الشيعي”، في ظل ضغوطٍ إقليمية ودولية متزايدة على الواقع السياسي اللبناني؟
تحريك الشارع.. تصعيدٌ أم رسالة؟
بموازاة المسار السياسي المتعثّر، شهدنا تحرّكاتٍ في الشارع تعكس تصاعد التوّتر بين الأطراف المختلفة. من جهة، برزت تحرّكات بعنوان “رفض أي محاولة لاستهداف التوازنات السياسية القائمة”، علمًا أن الأمين العام لحزب الله الشيخ نعيم قاسم أدان هذه التحركات المُسيئة (تظاهرات الدراجات النارية)، وقال إن “هذه المظاهر الاحتفالية بشكلها ومضمونها وبالمناطق التي وصلت إليها، لا تخدم الوحدة الوطنية ولا الوحدة الإسلامية ولا المقاومة ولا التحرير”؛ وكانت الهيئة التنفيذية في حركة أمل قد أصدرت بيانًا لمناصريها بعدم المشاركة بأي مسيرات قد تعتبر استفزازية للطرف الآخر.
ومن جهة أخرى، خرجت مظاهراتٌ داعمة أمام منزل الرئيس المكلف في قريطم، ما يعكس حالة استقطابٍ متزايدة حول حكومته المرتقبة.
لكن السؤال الأساسي هنا: هل هذه التحرّكات تعبّر عن رفضٍ سياسي طبيعي لمسار الحكومة، أم أنها مؤشرٌ على مرحلةٍ جديدة من الصدام السياسي والأمني؟
ففي بلدٍ مثل لبنان، غالبًا ما تكون الشوارع مرآةً للصراعات السياسية الكبرى، وإذا ما استمرّ التوتّر في التصاعد، فقد نكون أمام سيناريوهات أكثر تعقيدًا، خصوصًا إذا دخلت أطرافٌ إقليمية على خطّ المواجهة.
هل حكومة نواف سلام إصلاحية فعلًا؟
الإصلاح في لبنان ليس مسألة نوايا فقط، بل هو عمليةٌ معقّدة تتطلّب وقتًا وإجماعًا داخليًا ونفسًا طويلًا، وهي عوامل غير متوافرة حاليًا. فحتّى لو افترضنا أن حكومة نواف سلام تشكّلت سريعًا، فإنها ستواجه تحدّيات كبرى في تنفيذ أيّ إصلاحاتٍ بنيوية تحتاج إلى سنواتٍ من العمل، بينما يُفترض أن تكون ولايتها محدودة حتّى الانتخابات النيابية المقررة في ربيع العام 2026.
من هنا، يُطرح التساؤل المشروع حول الهدف الحقيقي لهذه الحكومة: هل تأتي فعلًا لتنفيذ إصلاحاتٍ جذرية، أم أن وظيفتها سياسية بالدرجة الأولى، تهدف إلى إعادة رسم المشهد السياسي عبر تحجيم “الثنائي الشيعي”، وتحديدًا حزب الله، في إطار ترتيبات إقليمية ودولية تسعى إلى تغيير موازين القوى في لبنان؟
من يعطّل التأليف؟
في المشهد السياسي اللبناني، تُلقى التهم بالتعطيل من طرفٍ إلى آخر. بعض القوى تتّهم ثنائي أمل - حزب الله بأنه العقبة الأساس أمام ولادة الحكومة، بسبب إصراره على الحصول على تمثيلٍ وزاري وازن مع الاحتفاظ بالمالية وترشيح الوزير السابق ياسين جابر للمنصب المتصل بـ”التوقيع الثالث”.
في المقابل، يرى آخرون أن المعرقل الحقيقي هو المكوّن المسيحي، وتحديدًا حزب القوات اللبنانية الذي يتصرف بلغة “المنتصر” ويريد توزير “حزبيين” من دون مواربة وبلسان “الحكيم” نفسه، بينما التيار الوطني الحر خاض “معركة التوزير” للحصول على حصص بأسماء غير منتسبة حزبيًا تحفظ له نفوذه في مرحلة ما بعد عهد الرئيس ميشال عون.
في ظل هذا التجاذب، يبدو أن تأخير التأليف ليس مسألة تقنية تتعلق بتوزيع الحقائب فقط، بل هو انعكاسٌ لصراعٍ أكبر حول مستقبل السلطة في لبنان، في ظلّ متغيراتٍ داخلية وإقليمية قد ترسم ملامح جديدة للمرحلة المقبلة.
سيناريوهات المرحلة المقبلة
الخيارات أمام نواف سلام ليست كثيرة: فإما أن ينجح في تشكيل حكومةٍ تلبّي الحدّ الأدنى من التوافق السياسي، ما يتيح لها الاستمرار حتّى الانتخابات المقبلة، وإما أن يواجه عراقيل متزايدة تؤدي إلى تعثّر مساعيه، ما قد يدفعه إلى الاعتذار، وهو سيناريو قد يفتح الباب أمام فراغٍ حكومي طويل الأمد وبغضّ النظر عن زيارة الرئيس سعد الدين الحريري المرتقبة في الذكرى العشرين لاستشهاد والده، الرئيس الشهيد رفيق الحريري، وما قد تحمله هذه الزيارة من تكهنات أو أماني لدى المناصرين في تيار المستقبل تحديدًا المتعطشين لعودة “الشيخ سعد”. كلّ ذلك في ظل “العقدة” السعودية التي لا يزال مبهمًا حلّها مع الممثل الأكثر شعبية في الشارع السني، كما ولدى عدد من اللبنانيين من الطوائف الأخرى.
في كلّ الأحوال، يبقى الثابت الوحيد أن لبنان يقف على مفترق طرقٍ جديد، حيث لا يبدو أن الحكومة المقبلة ستكون مجرد تفصيلٍ إداري، بل قد تكون مفصلًا أساسيًا في تحديد اتّجاهات المرحلة المقبلة، سواءً لناحية تكريس توازناتٍ جديدة، أو الانزلاق نحو مواجهاتٍ مفتوحة قد تعيد خلط الأوراق بشكلٍ جذري.