إيمان مصطفى (موقع العهد الإخباري)
على بُعد أمتار من القصف، كُتب لثلاث نساء جنوبيات الحياة. كنّ منهمكات بالطهو للمجاهدين بعدما نزح الجميع. كانت إحداهن تكفّن وتغسل الشهيدات غير آبهة بنعيق المسيّرات. وأخرى تتنقل بين البيوت تطمئن على حال الصامدين. مشاهد تعيد ترتيب صورة السيدة زينب (ع) في المخيّلة، عندما قالت في وجه يزيد يوم فاقتها: "ما رأيت إلا جميلًا". نتخيلها ساكنة، مطمئنة، متجمّلة عند الفاقة، كأن لم يصبها ضرر، لم يصبها إلّا كلّ خير. مرحلة تتعدى الصبر الجميل والاحتساب والتسليم. سيدات كشفن عن البسمات المتدفّقة، حيث لا وقت للانكسار، وجسّدن شواهد حية على قدرة النساء المذهلة.
رغم أصوات القصف والعدوان، تتواصل جهود النسوة في بلدة جبشيت في صنع الطعام. تسلم بعضهن مع بداية الحرب مهمّة توزيع المواد الأولية كالأرز والعدس على منازل الصامدات، لتطهو كلّ منهن ما يقارب الخمسين وجبة، وفقًا لمندوبة الهيئات النسائية في بلدة جبشيت الحاجة زينب شبيب. وعندما اشتد القصف ونزح الجميع، بقيت الحاجة مع امرأتين، يطهَون الطعام بما تيسر لتقديمه للمجاهدين. سقط الصاروخ بجانبهن، ولأن الله كتب لهن الحياة لم ينفجر، وتابعن عملهن غير مستسلمات، فقلوبهن متعلّقة بالله، وبالجنوب، ولن يخرجن حتّى يتممن واجبهن. وحتّى عندما باتت القرى الجنوبية خالية من سكانها، ونزح المقيمون فيها نحو مناطق أكثر أمنًا، بسبب الاعتداءات الغاشمة للعدو "الإسرائيلي"، بقيت الحاجة شبيب صامدة وحدها بعد نزوح من كانتا معها، لتقوم بواجبها في التغسيل والتكفين.
واجب التغسيل والتكفين حملته على عاتقها أيضًا مندوبة الهيئات النسائية في بلدة دير الزهراني الحاجة فاطمة سبيتي، التي خرجت على قيد الحياة بأعجوبة من تحت أنقاض منزلها. ورغم أهوال ما رأته من الصواريخ التي تسقط على المباني والمنازل، فإنها بقيت متشبثة بعملها في التغسيل والتكفين، صامدة في قريتها. بهدوء ظاهر، تقول لموقع العهد: "نقوم بالواجب الشرعي تجاه الشهيدات"، مردفةً: "الله يُصبّرنا، الحقيقة أننا نرى يوميًا مشاهد أليمة، ولولا أن صبّرنا الله ما صبَرنا، على رؤية هذه المشاهد". تصف المشهد القاسي: "التقطيع والأثر على الأجساد يختلف تمامًا عن كلّ ما رأيته سابقًا، هناك تمزيق شديد وفتك شديد بأبدان الشهيدات". تتحدث عن صعوبة القيام بالتكاليف الدينية الخاصة عند الموت لجهة التغسيل والتكفين والصلاة، في مثل هذه الظروف، وطبيعة الأجساد الممزقة والمقطعة، والرؤوس المهشمة؛ ولكنها بكلّ ثبات تؤكد أنها قامت بواجبها من باب إكرام الميت الذي أمرنا الله به.
قصتها واحدة من عشرات قصص التحدّي لنساء الجنوب اللواتي فرضت عليهن الحرب الصهيونية الغاشمة شكلًا جديدًا من الحياة تعددت فيه أدوارهن، ومنهنّ مندوبة الهيئات في بلدة أرنون الشقيف الحاجة منال غزال التي تستذكر رحلة صمودها مع عدد من الأخوات. أيام من العناء، لم يمللن، ولم يتعبن. ليال عصيبة من القصف العنيف، يتنقلن بين البيوت، يتابعن أوضاع الصامدين، يطهَون الطعام، وقد استطعن أن يفتحن صيدلية لتأمين ما تيسر من الدواء.
عندما خرجت آخر امرأة صامدة من البلدة، اضطرّت الحاجة غزال للمغادرة. "الترحال الطويل"، كلمات لم تنطقها، ولكنك تشعر بها مع كلّ عبارة تقولها، ورغم أنها اعتبرت أن مسيرًا طويلًا كان في انتظارها، لكنّها آمنت أنه لا بد لها من العودة، فقلبها متعلّق بأرض الجنوب. لم تتوقف الحاجة غزال هنا، تابعت أوضاع النازحين في مراكز النزوح وأماكن التهجير، واكبتهم من جميع النواحي الحياتية، والغذائية، والنفسية، والصحية، عبر متابعة المستشفيات لإدخال المرضى وإجراء الفحوصات الضرورية، وتأمين الدواء خاصة لمرضى الأمراض المستعصية. كما تولت مهمّة تبليغ عوائل الشهداء، ومساندتهم، إلى جانب التواصل مع الهيئات النسائية في المناطق كافة خصوصًا في الشمال وبيروت، بالإضافة إلى إنشاء مجموعات الواتساب للتواصل، والاطمئنان والمتابعة المتواصلة. تخبرنا الحاجة غزال عن بسالة رابط البلدة، الذي صمد حتّى استشهد، وتصف لنا الحمل الذي ألقي على عاتقها والجهد المضاعف الذي قامت به بعد استشهاده، وبذلك أثبتت أن هناك حياة لا تنتهي، تسير بدروبها، وفي أوج الحرب تشعر كأن هذا البلد لا ينقصه شيء.
لا أحجيات هنا. ثمة تقدير عالي المستوى لدى هؤلاء النسوة. "الناس لبعضها في الجنوب"، تقول مسؤولة الهيئات النسائية في منطقة جبل عامل الثانية الحاجة ماجدة منصور لموقع العهد. تسهب بالحديث عن الليالي العصيبة التي مرّت على نساء الجنوب، والتي شعرْن فيها بحضور الله الذي مدّهنّ بالقوّة والثبات.
تؤكد الحاجة أن العدوّ حاول أن يكسر صمود النساء واستهدفهن لأنه خاف من دورهن، فبقدر ما ظهرت الصور الموجعة والمفجعة في الحرب، ارتسمت صور ومشاهد العز والصمود والجهاد والتضحية، وتجلت هذه الصور في نساء الجنوب، كما في رجالها ومجاهديها، إذ كان هناك مشهدان، في أرض المواجهة والاستهداف، وفي أرض النزوح والهجرة. تضيف: "في بلدات الاستهداف والمواجهة، رأينا النساء اللواتي صمدن في أرضهن وبيوتهن، ليثبتن للعدو وللصديق أنهن متجذرات في هذه الأرض، ولا يمكن اقتلاعهن منها، كنّ يردّدن على مسمعي: "لن أخرج من منزلي إلا إلى قبري"، وفعلًا نالت بعضهن الشهادة، وهنّ صائمات وصابرات".
تلفت الحاجة إلى أن بعض اللواتي صمدن في القرى كان لهن الحضور بين الناس، مما دفعهن للبقاء، ليستأنس الصامدون بوجودهن، لحثهم على البقاء، وكنّ الملجأ للناس دينيًا واجتماعيًا ومن كلّ النواحي الحياتية. وبعض النساء أردن أن يكون لهن يد في الجهاد، ولو من بابه الصغير، كما وصفنه، فبادرن إلى تحضير وجبات الطعام للمجاهدين، وبعضهن لم يغادرن بلداتهن لتجهيز الشهيدات، والقيام بواجب التغسيل والتكفين، وكان لهن الدور الكبير، وقد شاهدن صور الإجرام الصهيوني، وعشن أيامًا عصيبة جدًا وسط الدماء والأشلاء.
تؤكد الحاجة منصور أنه "كان لا بد لنا من حفظ العيال، كما عملت السيدة زينب (ع)، فتابعنا أوضاع النساء والأطفال في أماكن النزوح والهجرة، وحافظنا عليهن، بالقدر المتيسر، وواكبنا عوائل الشهداء، وتابعن الأمور الدينية واستفسارات النساء الفقهية"، لافتًة إلى أن حركة التكافل الاجتماعي لبيئة المقاومة تجلت بأبهى الصور، إذ استنفرت لجان العمل والتكافل الاجتماعي في كلّ أماكن النزوح، وعملت على تقديم ما تستطيع من الحاجات الضرورية والملحّة، وكانت صلة الوصل بين المتبرعين والمستحقين.
ويوم حان موعد العودة، وحلت الساعة الرابعة فجرًا، انطلقت النسوة، تنطلق السيارات بهن مسرعة نحو الجنوب اللبناني، وما هي إلا ساعات تعانق بزوغ الشمس، حتّى وصلن إلى أرضهن، صامدات، مجاهدات، لبسن ثوب السيدة زينب (ع) وعبرن طريق ذات الشوكة حتّى النصر.