بول مخلوف/ جريدة الأخبار
العينان شاخصتان في الكاميرا والشفتان ملتويتان لضرورات العجرفة. يتحرك الحَنَك إلى الأمام حين يتحدث مثل العجينة: يمُطّ، وبقدرةٍ عجيبة، لا يعود حنكه إلى الوراء ليتثبت في مكانه. كأنها موهبة؟ هو شخصٌ موهوبٌ بلا شكّ. الانطباع الأول الذي يراودنا أننا إزاء نسخة عربية من الساحر «هوديني». لذلك، سنظنّ أن رأسه سيقع على الأرض بين الفينة والأخرى كون الحنك يعجز عن تحمّل كل هذا الثُقل، كل هذه الحركات «البهلوانية». وبالتالي، سنضحك، وهكذا يكون قد أضحكنا، وتكون النكتة قد وصلت إلى مرماها، وسينتهي العرض.
لكنه يكمل الحكي كمن يستمرّ في مضغ العلكة. مطاط كالعلكة، يشطّ، هو ينطق كثيرًا وبسرعة، مثل الفرنسيين.
وكلما نطق ازداد التواء الشفتين، ويصير فمه كمن يرقص التانغو.
صحيح أنّ أسنانه ناصعة البياض، «هوليوود سمايل» ومن نوع الـ«بلينغ بلينغ»، تلمع، وتبرق، وتشد الانتباه مثل سيارة حديثة خارجة للتوّ من المغسل. لكن ليس المراد هنا إظهار الضحكة. لا وجود للضحكة في الأصل، فلا شيء يثير الضحك. مع العلم أنه كوميديّ أو أقلّه، هكذا يعرِّف عن نفسه، وهكذا يُعرَف عنه، لكننا، مرة جديدة، نواجه معرفة زائفة، نحن على قناة خليجية لا تنسَ! المعرفة هنا مثل خلف الحبتور: إشاعة.
الكوميديا في مرحلة ما بعد «الربيع العربي»، وخصوصًا إذا جاءت برعاية أنظمة الخليج، تُدجَّن، وتغدو بروباغندا سياسية تعمل عملها وفقًا لمقولة «دسّ السم في العسل». النكتة رعب الملوك. ومع ذلك فهو يعرِّف عن نفسه بأنه كوميديّ، يقدِّم برنامجًا كوميديًا، لكننا في الحقيقة أمام هجّاء يمتهن الردح والشماتة، يمتهن الهزء؛ عند الميديوكر يمثّل الاستهزاء طقسًا من طقوس الضحك.
الميديوكر... إذ ينكّت!
هشام حداد صار على منصة «المشهد». جوكر. الرجل صاحب موهبة حقًا. ينتقل من شاشةٍ إلى أخرى، ومن موقفٍ إلى آخر، كأنه واحدٌ من «الأربعطعش آذاريين» الذين يغيّرون سياساتهم بحسب أوامر صندوق النقد. ستقول لنفسك أثناء قراءتك، إنه واحدٌ منهم ولمَ كاف التشبيه؟ أنتَ محق.
على قناة «المشهد»، وهي قناة تلفزيونية ومنصة رقمية أيضًا مركزها الإمارات، ويديرها... طوني خليفة، يطلّ هشام حداد علينا إذًا في برنامج جديد عنوانه: «هشام برو ماكس». يعني مثل جهاز آيفون لكن على هيئة إنسان. الرجل صاحب موهبة حقًا، ولغته خير دليل. «هشام برو ماكس»: الرجل يخال نفسه تكنوقراطيًّا، مختصًّا في شؤون هجو «الخصوم»، وتقريظهم.
يقدّم خدماته مقابل حفنة من المال مثلما سبق وفعل مع «إم. تي. في» عندما كان على «إل. بي. سي ». هو حرّ في النهاية وليفعل ما يشاء. غير أنّه في برنامجه الجديد يصنع سردية زائفة تطاول خصومه، ويقدمها كمرويّة شفهية أمرها محسوم. يبدو كثير الثقة بما يقوله إلى حدّ الصلافة. تراه يرمي خطابه بخفةٍ وكأنه يلقي نكتة في الهواء. هشام حداد قرر الذهاب في القول السياسي «برو ماكس» هذه المرة:
يتحدث بوضوح وبالمباشر، ينطلق من «معلومة»، يبني خطابًا، الكوميديا ذريعة هنا إن لم نقل ضحية. ذاك أنّ تحوير الحقائق والإمعان بالذم هما الحاضران الوحيدان، عدا عن كون كل ما يقوله يتبخر سريعًا لأنه زائف، فهو يتكئ على الأسلوب المقذع كعنصر من سرديته الزائفة التي يسخّر برنامجه لبثها وترويجها.
يفترض الميديوكر أن بوسع برنامج «فكاهي» كتابة التاريخ وسرد أحداثه ووقائعه ولو جاء بالمختصر. علينا على الأرجح تعلّم «البرودة» من وليد فياض والاستعانة بأكياس هائلة من الفوشار. البرنامج لا يمت إلى الكوميدية بصلةٍ على الإطلاق. نيّة البرنامج مخبوءة، يتم التعاطي معها كأنها سرّ بطبيعة الحال، ما يخرج علنًا وما يهم حقًا هو التأثير. الرجل يعتقد أنه يستطيع التأثير لأنه... «كوميديّ»، ولأن اختصاصه هو الهزء الرخيص. يكتفي حداد بتعريفٍ سمج وركيك لبرنامجه: «هشام برو ماكس: يحتوي على سرعة عالية من السخرية. سريع المواكبة تماشيًا مع عصر السرعة. يخضع لـ«أبدايت» مرة في الأسبوع. سنغوص في الأحداث السياسية بطريقة ساخرة».
ثمة عطل كبير يصيب هذا الجهاز... هذا الإنسان. ليس لأنه فاقدٌ للكوميديا فقط، بل ثمة عطلًا أشبه بفيروس عندما يفتح نوافذ افتراضية ويدخل إلى مواقع إلكترونية من تلقاء نفسه. الفيروس: بلبلة تهيمن على الخطاب الهجين، التعويل الوحيد هو على حركات الفم؛ على الهزء. تنسحب هذه العشوائية إلى مستوى الشكل. يقفز حداد من موضوعٍ إلى آخر، ومن بلد إلى بلد، ومن شأن سياسي إلى شأن اجتماعي: يبدأ بلبنان، يمر بسوريا، يحط قليلًا في دبي، لا ينسى أن يزور دونالد ترامب، وينتهي... في مصر.
«نو بروبليم». الظاهر أنّ «المشهد» اشترطت عليه تنوّعًا في المحتوى. في النهاية عليه أنّ يقدّم مادّة تناسب الأجر الذي دائمًا ما يتفاخر في الحصول عليه. ثم إنّ الرجل صاحب موهبة حقًا، هو غزير الإنتاج، ويظن نفسه أنه يعرف كل شيء ويعرف في كل شيء. إنها طبعًا معرفة برو ماكس: زائفة مفرطة بالزيف.
يضحك علينا... بروماكس
لقد تطرّقنا في إحدى المقالات السابقة إلى هشام حداد كأحد هؤلاء الذين وصفناهم بالـ«أبلوموفيين» (الأخبار، 11 تشرين الثاني/ نوفمبر 2024). «الأبلوموفية» باعتبارها صفة دالة على الكسل والبلادة. وفي حالة حداد إنها نسخ ولصق لكل ما تراه العين: سطا على نجاح زميلته أرزة شدياق في برنامج «لول»، وأنتج برنامجًا مستقى، بل مأخوذًا، شكلًا ومضمونًا من برنامج عادل كرم، الآن فريسته الجديدة: جو شو. «الكوميدي» المصري الذي يستعمل الطائفية كأداة تحليل وكمنظار سوسيولوجي. حتى جهاز أيفون راح ضحيته، الرجل صاحب موهبة، مبدع بو ماكس!
ليس جديدًا على هشام حداد، التكلم عن الهزيمة ولا الشماتة بمآل لبنان وبحال «حزب الله» بعد الحرب. لم تكن الحرب الأخيرة قد بدأت حين كان الرجل يبث خطاب الهزيمة ويتحدث عنها كحدثٍ حتميّ. يخالف حداد رفيقه سمير قصير في هذه النقطة. عند حداد بلى، إنّ «الهزيمة قدر» لأن من يقاتل إسرائيل مهزوم دائمًا. لماذا يا ترى؟ قد يكون مفيدًا إذا اتصلنا بالسفارة الإماراتية حتى نحصل على جواب.
هشام حداد لا يناقش حلول هزيمة «حزب الله». هو لا يطرح «حقيقة الهزيمة»، أي إن كانت قد حدثت فعليًا أم لم تحدث. هو متأكد من حدوثها من شهر آب (أغسطس) الماضي. الرجل قطعيّ في هذا الشأن. «الحقيقة» بجعبته منذ الصيف، موجودة في جيبة سرواله الصغيرة. الجيبة الكبيرة يضع فيها أيفون برو ماكس. ثمة حقيقة يعجز الميديوكر عن إخفائها في خطابه هذا.
عندما يجلب هشام حداد «الهزيمة» إلى برنامج «كوميديّ»، ويحرّك شفتيه يمينًا ويسارًا وهو يتحدث عن «الهزيمة»، مذكرًا جمهوره بأنه أوّل من تنبأ بها، فنحن أمام رجل لا يضحكنا إنما يضحك علينا. هذا لم يعد تحذلقًا أو عجرفةً، نحن إزاء شامت يبتزّ، إنه يقول: «انظروا إلى هذا الخراب، انظروا إلى كل هذا الدمار، أنتم من جلبتم على أنفسكم هذا الويل، لم تصغوا إليّ بل فضلتم خيارات حزب الله على نصائحي».
عندما نتذكر ما أعلنه الرجل حيال برنامجه أنه «غوصٌ في الأحداث السياسية بطريقة ساخرة» ونستمع إلى قوله «انتهت الشيعية السياسية بعمق 40 مترًا تحت الأرض»، فإننا نجد استهزاء وليس سخرية، من رجلٍ حرر بلد هشام حداد مرتين من إسرائيل. باستثناء الملوك والمشايخ، والطائفيين وكسلة التفكير، من هم الذين ينظرون إلى السيد نصرلله على أنه رمز «الشيعية السياسية»؟ تدب الحماسة فجأة في حداد، يصدح أثناء إلقائه: «بعمق 40 مترًا تحت الأرض». حسنًا، أنتَ لست عميلًا لإسرائيل كما تدعي دومًا أنها التهمة التي يلصقها جمهور «حزب الله» فيك، أنتَ الدعابة المفضلة عند الشيخ.
نكتة واحدة فقط يمررها هشام حداد طوال حلقته، والحال أنها تمسّه شخصيًا؛ عندما تحدث عن «التكويع»، وهي المفردة الطاغية الآن في الشأن السوري، فهشام حداد هو «التكويع» بذاته، بل إنه «الكوع» (المفترَق) بعينهِ، بما يمثله من سماجةٍ، وعسر، وتحوير للحقائق.
على أحد تقديم النصيحة لهشام حداد ويحثه على قراءة التاريخ، إنّ الرجل كسول، نعلم، لكن فليقرأ التاريخ ولو من ويكيبيديا. في حلقته «الكوميدية» يحاجج حداد فكرة أنّ دول «المركز» دائمًا ما تتخلى عن حلفائها، ذاك حتى يصل إلى الجوهر الذي يريد إيصاله من حلقته: إيران تخلت عن «حزب الله» وكانت سببًا في استشهاد القادة. كيف يصقل حداد حجته؟ يضرب مثل علاقة إسرائيل ببشير الجميل.
يستعمل ما يظن أنه «التاريخ»: إسرائيل «تخلّت عن بشير الجميل ودفنت معه المارونية السياسية» ويسقط نظريته الـ«برو ماكس» على «حزب الله» باعتباره ممثلًا «للشيعية السياسية»، موازيًا بشكلٍ جازم، بين إيران وإسرائيل.
هكذا، يستوي الخبل والبلاهة ويبلغان أعلى مستوياتهما. لكن بشير الجميل يبقى «الباش» كما يدلعه حداد، وميشال عون ليس إلا «فضلة من فضلاته». ليست هناك توصية من قبل الرقابة، كوجود الأهل، على حلقات «هشام برو ماكس»، النصيحة الوحيدة هي ضرورة الاستحمام بعد الانتهاء من الحلقة، أو أقلّه غسل اليدين.
مع «هشام برو ماكس»، تصبح السياسة، ومعها التاريخ، بروباغندا كوميدية، شديدة الرداءة لكن مذاقها يروق لأنظمة الخليج وحلفائها، وتصبح الكوميديا فخًا منصوبًا لكيّ الوعي السياسي، ونشر الابتذال الشعبوي، و... الغثيان.
لا تنأى «معرفة» واحدة في حقل هشام حداد من الخطأ. لكن كون هذه الأخطاء تصب في خانة الشائعات، فإنها مطلوبة كثيرًا لتكملة الحرب التي بدأت بهذا الشكل المكثف منذ عام 2005 على «حزب الله». هذه الأخطاء أيديولوجيا سياسية تنتجها مطابخ ضخمة، وطهاة رداحون.
يتعاطى حداد مع التاريخ مثل الذي يطلب الطعام: «أريد هذه السندويشة من دون طماطم من فضلك»، يحذف ما يريد ويضيف ما يريد، ويمد المأدبة أمام الجمهور. «تفضلوا» يقول لهم: «هذه وجبة سريعة تلخّص مجريات الأحداث كلّها صدقوني. قد تجدونها مفرطة بالدهون لأنها زائفة، رغم ذلك، تلذذوا بأكلها، وبلا شك ستثخن من كراهيتكم لحزب الله». هذا ما معناه: دسّ السم بالعسل.