غسان ريفي
لم يكن منطقيا أن يصل عدد طالبي الكلام في جلسات الثقة لحكومة الرئيس نواف سلام إلى ما يقارب 75 نائبا من أصل 128 أي النصف زائدا 11 نائبا، في حين أن الكتل النيابية يتراوح عددها بين 3 و20 نائبا ما يعني أنه في أفضل الأحوال يجب أن لا يتعدى عدد المتحدثين الـ20 أو 25 نائبا وأكثرهم من المستقلين غير المنضوين في كتل أو تجمعات نيابية التي يفترض أن يعلن نائب واحد موقفها.
تعاطى كثير من النواب مع جلسات الثقة على قاعدة: “أنا أتحدّث إذًا أنا موجود”، مستغلين بثها عبر الهواء مباشرة، ما يمنحهم التواصل مع جمهورهم من دون أي كلفة تذكر، فضلًا عن إمكانية رفع السقوف والتحريض السياسي والشحن الطائفي لا سيما من أولئك الذين استخدموا جلسات الثقة ومنبرها لاستهداف المقاومة ومناصبتها العداء بمضامين لا تمت بصلة إلى فكرة إعادة بناء الدولة وتعزيز الوحدة الوطنية التي جاء فيها عهد الرئيس جوزاف عون وخطاب القسم وتعمل بوحيها حكومة الرئيس نواف سلام.
منذ دخول وقف إطلاق النار حيز التنفيذ في 27 تشرين الثاني 2024، وإعلان حزب الله التزامه به وبما اتفقت عليه الدولة اللبنانية مع الرعاة الدوليين، وثمة من يضع نصب عينيه من التيارات السياسية استفزاز المقاومة وبيئتها وجمهورها، تارة بالتشفي منها وتأكيد هزيمتها، وتارة أخرى بتحديها واستعدائها وربط تسليم سلاحها بإعادة إعمار القرى والبلدات التي دمرتها "إسرائيل" والتهكم على شهدائها، وطورا باعتماد سياسة الحقد والاقصاء التي تتماهى مع أهداف العدوّ "الإسرائيلي" من شن الحرب التي فشل في تحقيقها بفعل صمود المقاومين وبطولاتهم.
وقد استمر هذا النهج الاستفزازي الذي كان يظهر في مناسبات ومؤتمرات صحافية وتصريحات ومقابلات بين الحين والآخر، من دون أن تحوّل المقاومة ذلك إلى سجال مع خصومها، بالرغم من الغضب الذي يسيطر على بيئتها التي قدمت نموذجا منه خلال الاحتجاجات على منع الطائرة الإيرانية من الهبوط في مطار بيروت التزاما بالاملاءات الأميركية الإسرائيلية.
وفي غمرة الاتهامات بالوهن والضعف وانقلاب البيئة على المقاومة والخلافات التي تعصف بحزب الله، نسفت المشهدية الجماهيرية غير المسبوقة في لبنان وربما المنطقة في تشييع السيدين الشهيدين حسن نصر الله وهاشم صفي الدين، كلّ هذه الاتهامات وأكدت أن المقاومة وبيئتها وجمهورها وحضورها ونفوذها وقوتها كلهم بخير، وأنها قادرة على مواجهة كلّ من يعمل على ضربها سواء في الداخل أو في الخارج.
ورغم ذلك، أطل الأمين العام الشيخ نعيم قاسم بخطاب هادئ رصين أكد فيه الدخول تحت سقف الدولة والالتزام باتفاق الطائف والتعاون مع الجيش اللبناني، وإعطاء الحكومة اللبنانية الفرصة الكاملة للقيام بالاتّصالات الدبلوماسية والضغط لإخراج العدوّ "الإسرائيلي" من لبنان، وقد قرن رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد القول بالفعل، فأكد في كلمته في جلسة الثقة على هذه الثوابت، ومنح الثقة لحكومة نواف سلام رغم كلّ الشوائب التي اعترت المرحلة الماضية، وذلك في تأكيد على حسن نية المقاومة وتأكيد التزامها بسقف الدولة.
لكن يبدو أن ما بادر إليه النائب رعد لم يعجب بعض الكتل النيابية من القوات اللبنانية وحلفائها ممن أصبحوا ضمن الحكم، حيث استغلوا منبر مجلس النواب لإطلاق كلّ أنواع الاستفزازات للمقاومة كمن يفتش عن الفتنة “بالفتيلة والسراج”، خصوصًا أن كلامهم لم يأت على ذكر "إسرائيل" ولا اعتداءاتها وعدوانيتها واستهدافها المدنيين الآمنين وبقائها ضمن النقاط الخمس وخروقاتها المستمرة بما في ذلك الاغارة الوهمية لمرتين على المدينة الرياضية خلال التشييع الذي شهد تمثيلا رسميًّا لرئيسيّ الجمهورية والحكومة.
ورغم كلّ ذلك، لم يتوان بعض النواب من تقليل شأن التشييع، واعتبار أن المشهدية الجماهيرية لا علاقة لها بالمقاومة، في حين طلب النائب جورج عدوان من رئيس الحكومة وضع جدول زمني لتسليم السلاح وتغاضى عن الاحتلال "الإسرائيلي" الذي يستوجب المقاومة وفقًا لميثاق الأمم المتحدة، فضلًا عن ربط الإصلاح بنزع السلاح وكذلك إعادة الإعمار.
يبدو واضحًا أن هذا الكلام الاستفزازي لا يقتصر على وجهات نظر النواب وتياراتهم السياسية، وإنما قد تكون محاولات لدفع المقاومة وجمهورها إلى تحركات أو احتجاجات تنتج توترات أو فتن داخلية تهدف إلى توريطها والنيل منها على الصعيد الوطني، خصوصًا أن نوابا يستعدون بعد نيل الحكومة الثقة لتشكيل تجمع هدفه الأساسي ممارسة كلّ أنواع الضغط والاستفزاز على المقاومة وبيئتها، وذلك تنفيذا لأجندات خارجية لا تصب في المصلحة الوطنية العليا.