أوراق ثقافية

أشباح الحرب الأهلية تهيم في الكرنتينا

post-img

 

بول مخلوف/ جريدة الأخبار

يتحوّل فايسبوك يومًا بعد يومٍ إلى حائطٍ تعلّق عليه أوراق النّعوة. لا شيء سوى المجازر ونحن الشاهد الحيّ الذي يعيش يوميات القتل ولا يني يندّد بالجزّار. في الصباح، تطالعنا صور الجثث وفي المساء نقرأ وصية من لم يُقتل بعد. وعند الظهيرة تعود إلينا ذاكرة الماضي المنكوب. هل كان الخبر الذي ذاع يوم الجمعة الفائت حقيقيًّا ثم تمّ دحضه لاحقًا عن قصدٍ؟ قد يكون كذلك في بلد العجائب الذي لا يزال يمنع ذكرياته أن تطوف مكتفيًا بالإنكار كعلاج ناجع لكبت ذنوبه.

الخبر الذي انتشر يوم الجمعة كالنار في الهشيم جاء كالآتي: «معلومات عن العثور على مقبرة جماعية في منطقة الكرنتينا تحوي رفات عشرات الجثث، ومن المرجّح أنها تعود للحرب الأهلية اللبنانية وذلك أثناء أعمال حفر لبناء حائط جانب جامع الخضر». أرفق هذا الخبر بصورةٍ تظهر فيها جبّالة واقفة، وعلى جانبها حفريات وأشغال حفر. لم يتمّ التبرّؤ من صحة الصورة، ولا تعليلها، رغم التبرّؤ من الخبر وتكذيبه. سرعان ما عزا الرأي العام وجود تلك الجثث إلى مصدرها الأساسيّ وعاد بها إلى أصلها، أي نسبها إلى ما يُعرف بـ«مجزرة الكرنتينا».

هذا يعني أنّه لم يكن أحد بحاجة إلى خبرٍ يفيد بأنّ هناك «شيئًا ما» حصل في منطقة الكرنتينا حتّى يعلم بأنّ هناك مجزرة ارتكبت في الكرنتينا، بل إنّ «الشيء» الموجود في الكرنتينا، والوارد في الخبر/ الشائعة، هو ما ينتظر المتلقي خبرًا عن وجوده حتى يقبض على إثباتٍ دامغٍ يدين عبره الفاعل، وليجد أثرًا عمّن يفتش عنهم.

ليست المقبرة الجماعية هي الـ«شيء» الذي بنى الخبر أساسه عليه وعبرها صار خبرًا. ذاك أنّ الجميع يعلم أنّ الكرنتينا التي حدثت فيها تلك المجزرة عام 1976، وقُتِل فيها ما يفوق عن ألف لبناني وفلسطيني لهي منطقة أشبه بمقبرةٍ جماعية. لقد صار هذا الخبر خبرًا لأنه زوّد المتلقي بما لم تزوّده به فترة السلم التي أعقبت الحرب الأهلية وهو: رفات عشرات الجثث في المقبرة الجماعية الموجودة في الكرنتينا. تعاطى الخبر مع المقبرة الجماعية بشكلٍ عابر. لم يتطرق إلى صحّة وجودها بالتالي لم يكذبها، بل كذّب العنصر الذي شكّله وجعله خبرًا: لم يعثر أحد على بقايا جثثٍ. وكأنه في المقبرة المفتوحة أو في كونها مغلقة، فإن النتيجة واحدة: لا وجود للمقتولين هنا.

ما كان مرجوًا هو ألا تبقى هذه الأموات منسيّة، مجرّد أرواح هائمة يهدّدها النسيان. حتى لا يبقى ضحايا المجزرة مجرّد أشباحٍ، فعلى القرائن أن تحضر، ثمّ من حقّ الأموات الاحتفاظ بعظامهم.

غير أنّ الخبر الذي دُحِض لاحقًا، جعل هؤلاء الأشباح عرضة شكٍّ في كونهم «أشباحًا». لقد بات بين أيدي الجهة التي نفّذت مجزرة الكرنتينا، والممثلة برلمانيًا اليوم، دليل على براءتها ممّا ارتكبته في هذا الحدث الفظيع. على هذا النحو، لم يكذّب هذا الخبر أي معلومة، فوجود مقبرة جماعية في الكرنتينا هو أمر معلوم، والمجزرة التي حصلت هناك مؤرّخة. لم يكذب هذا الخبر سوى الحقيقة التي طال انتظارها.

إنّ نفي العثور على رفات العشرات من الجثث بعد الإعلان عن وجود عشرات الجثث، معناه أنّه حتّى بحضور جرّافةٍ وأعمال حفرٍ، لم يتبيّن أنّ هناك أي جثةٍ في الكرنيتنا؛ هكذا خبر يسهم في إنكار المجزرة أو في أفضل الأحوال القول إن الكرنتينا مقبرة جماعية لا تحتوي في عمقها على شيءٍ. يتحوّل تكذيب الخبر إلى جزء من الخبر نفسه. نحن لسنا في صدد شائعة فقط، بل ما هو مغرض، وهذا المغرض يزجّ في خانة «العمل السياسي». فمن يستفيد من هذا الخبر، هو الذي لم تشهر بوجهه أصابع الاتهام بعد ولم يحاسب على جرائمه، هو حرّ وطليق، بل شيخ ونائب!

لو جاء توضيح للخبر منصوصًا على الشكل الآتي مثلًا: «اشتبه العاملون في منطقة الكرنتينا بـ«شيء ما» ظنّوا أنه رفات جثث لضحايا مجزرة الكرنتينا» بدلًا من تكذيبه، كان مصير هؤلاء «المنسيّين» ضائعًا في مكانه المحدّد والمعروف: في الكرنتينا، التي لم تفتح الدولة أي تحقيقٍ حول المقابر الجماعية هناك. لكن تكذيب الخبر هو تكذيبٌ لحقيقة حضور «الغائب»، وتثبيطٌ للأمل بملاقاة الميّت المقتول عن كثب. هكذا، تتماهى وظيفة هذا الخبر مع جوهر بلد العجائب، في أنّ التكذيب الذي أعقب الخبر من شأنه إعادة كبت الماضي المرير، والتمهيد لنسيان أمر الأموات والدليل أنّه «لم يُعثر على جثث».

ماذا يشبه هؤلاء المنسيّون؟ إنّهم يشبهون الحرب الأهلية اللبنانية التي ينتمون إلى حقبتها. الحرب الأهلية المنسيّة، ولو أنّها ليست كذلك، لما كان مجرموها اليوم رجال سياسة ونوابًا في البرلمان. نحن بصدد تاريخ حافل من الدم الذي يقابل بالكبت والنسيان. لذلك إنّ المجزرة هنا مادة سريعة الاشتعال. هكذا يصحّ استهلال دارينا الجندي في فيلم غسان سلهب «أشباح بيروت»: «الحرب لم تنته» دائمًا، بل هي مقولة أشبه بشبحٍ يطارد كل من يمتنع عن النسيان.

على أنّ الكبت والنسيان اللذين حدّدا طبيعة بلد العجائب أخذا من الكرنتينا عاصمةً. هكذا تصير المقبرة الجماعية أريكةً لعلاج نفسي زائف. شعار «حب الحياة» مثلًا الذي يتبناه مرتكبو مجزرة الكرنتينا، ويتمسّكون به بشدّةٍ وهو يعني كما يترجمونه «السهر، والسياحة، والتسوّق»، فعّل نفسه في التسعينيات بعد انتهاء الحرب الأهلية، في ملهى ليلي مشهور اسمه الـ«B.018» لصاحبه المعماري برنار خوري.

في الـ«B.018» تفريغٌ للكبت وكتابة تاريخ جديد (يبدأ بالعمارة ولا ينتهي بالرقص) يضع الحرب وراء ظهره وينساها. سيفاجأ برنار خوري لاحقًا في عنوان مقالٍ مكتوب باللغة بالإنكليزية (هذا مهم): «الشرير الذي يرقص فوق القبور». كانت ضربة موجعة، كما يعترف، للـ«B.018» القائم حتى الآن فوق... القبور الجماعية في الكرنتينا. الـ«B.018» تمثيل مكثّف عن حقيقة بلد العجائب الذي يعمّر القبور ويرقص فوقها.

ملاحظة: معظم الأبحاث المختصّة بالتنظيم المدني، وبالعمارة، التي سادت في لبنان في الآونة الأخيرة والمدعومة من الجامعة الأميركية في بيروت، ومن الجمعيات غير الحكومية صبّت جلّ اهتمامها على منطقة الكرنتينا. بحثَ المعماريون والـ«أوربانيست» عن الكرنتينا باعتبارها «هامشًا» أي ضاحية محيطة بالمدينة وغير فاعلة في خلق القرارات، مهمّشة والخ، فتّشوا أيضًا عن الذاكرة عبر المرويّات الشفهية وأرادوا ترميم الخراب. لم يسأل أحدٌ منهم عن القتلى. لم يفتّش أحدٌ منهم على «شيء ما» باقٍ من الموتى، «شيء ما» منهم لم يمت بعد.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد