اوراق مختارة

ريشةٌ من وحي الإبادة فنان غّزي يحوّل المعلبات الفارغة إلى صرخة إنسانية

post-img

بهاء طباسي/ القدس العربي

في قلب قطاع غزة، حيث تمتزج المعاناة بالصمود، ينبض فنٌّ فريد يحاول أن يجسّد واقعا تحجبه أخبار العالم وصخبه المستمر. هناك، بين الخيام التي انتشرت على امتداد الأفق، يقف شاب فلسطيني، عاقد العزم على أن يحوّل أدوات البقاء اليومية إلى لوحات فنية تصرخ بما لا تستطيع الكلمات وصفه.

لم يكن الشاب أحمد مهنا فنانا كلاسيكيا ينتقي لوحاته من متاجر الفنون، بل صاحب رؤية خاصة، وجد في المعلبات الفارغة، التي تصل مع المساعدات الإنسانية الممنوعة الآن بأوامر الاحتلال، خامةً لرواية القصة التي يحاول الاحتلال طمسها.

رأى في هذه العلب المهملة صوتا للناس الذين كانوا يعتمدون عليها في غذائهم، لكنها في الوقت ذاته تحولت إلى رموز لمعاناة لا تتوقف، وشهادات صامتة على قهرٍ يطول.

يقول الفنان الفلسطيني الشاب، وهو يحكي كيف خرجت مصفوفته الفنية من المعلبات إلى النور: «أول ما لملمتهم، وبدأت العمل، استغرب الناس، فهم اعتادوا أن يستخدموا معلبات الفاصولياء واللحوم كحاويات زراعية، لكنني جمعتها، نظفتها، ثم قمت بثقبها ورصّها على أعمدة في مصفوفة أشبه بلوحة تنتظر أن تنبض بالحياة».

يوضح : «اعتقد البعض أنني جننت، أو أنني أقضي ليالي الحرب المملة الكئيبة في جمع علب الطعام الفارغة ورصها بجوار بعضها البعض! لم يتخيلوا أنني سأرسم، وستتحول هذه القطع المعدنية الصماء إلى عمل فني متكامل ينطق بمآسي وآمال الشعب الفلسطيني وما يتعرض له من ظلم وإبادة جماعية على يد الاحتلال الغاشم».

تجربته لم تكن مجرد مغامرة إبداعية، بل جاءت رسالة مشحونة بالألم والتحدي، مستوحاة من المخيمات ووجوه الناس الذين يعيشون على أمل ضئيل في ظروف قاسية لا ترحم.

الفن مرآة للمعاناة

غزة ليست مجرد اسم على الخريطة، بل هي جرح نازف وملحمة مستمرة. وأمام هذا الواقع، ابتكر هذا الفنان طريقته الخاصة في توثيق الحكايات. لم يستخدم ألوانا عادية، بل مزجها بدموع الأمهات، بآهات الأطفال، بأحلام الشباب العالقة بين الحياة والمجهول. يقول الفنان الشاب: «أي رسام في العالم قد يحاول أن يعبر عن مأساة الشعب الفلسطيني، لكن الفنان الغزي وحده من يستطيع أن يجسدها كما هي، لأن الألم الذي نشعر به هنا لا يمكن نسخه أو تخيله».

يضيف الفنان، متأملا إحدى لوحاته المكتملة: «حين أنظر إلى هذه المعلبات، لا أرى مجرد قطع معدنية مهملة، بل أسمع أصواتا تناديني لأعيد صياغة حكاياتها. كل خدش، كل انحناءة على سطحها، تحمل أثَر يدٍ مرت بها، ربما كانت يد طفلٍ جائع أو أمّ تواسي صغيرها بآخر ما تبقى لديها. لهذا، كل ضربة فرشاة أضعها ليست مجرد لون، بل هي صدى لصوت لم يُسمع بعد».

هكذا حملت لوحاته خصوصية لا تضاهى، إذ لم تكن مشاهد مستوحاة من الخيال، بل انعكاسا لنبض غزة، بؤسها، وصمودها، وحتى الضحكات العابرة التي تتحدى الموت.

هذا الفنان لم يكن وحيدا، ففي غزة، حيث الدمار يملأ الأفق، والرمال تتلون بالدماء، والجوع لا يغادر البطون، كان الفنانون الآخرون يحملون رسالتهم بأساليب مختلفة. كانت الجدران المهدمة صفحات مفتوحة، كتبوا عليها قصة شعبهم بألوان زاهية رغم الرماد، فرسموا جداريات تزرع الأمل وتؤكد أن الحياة لا تتوقف أمام القصف والجوع.

على ركام المنازل التي تحولت إلى أنقاض، امتدت أنامل المبدعين الفلسطينيين لتعيد إحياء ذاكرة المكان، محفورا عليها أثر الذين عاشوا هنا. أرادوا أن يقولوا للعالم: «هذه البيوت لم تكن مجرد حجارة، بل كانت تنبض بالحياة، وهؤلاء الأطفال لم يكونوا مجرد أرقام، بل أبطالا قاوموا حتى الرمق الأخير».

يقول أحدهم، بينما يخط صورة لطفل يحمل مفتاح العودة: «نحن لا نرسم وحسب، بل نوثق التاريخ، نحفره على الجدران كي يبقى حيا، حتى لا تمحوه الأيام ولا يطويه النسيان».

في فلسطين، الفن ليس مجرد رفاهية، بل هو صوتٌ يروي الحكايات المنسية ويشعل جذوة الأمل والكرامة. في هذه الأرض التي تشهد نضالًا لا ينقطع، تتعدد أدوات المقاومة، فمنهم من يحمل السلاح، ومنهم من يوثق بالكلمة، ومنهم من يجعل الألوان وشواهد المأساة سلاحا يروي الحقيقة، كما يفعل هذا الفنان الشاب، الذي رسم بريشته درب الصمود.

كل علبة معدنية يلتقطها لم تكن بالنسبة إليه مجرد بقايا، بل قطعا من ذاكرة غزة، شظايا من معاناة لا تنتهي، ورموزا لقصص الصمود التي تُكتب في كل زقاق. وسط الدمار والحصار، أطلق لوحاته لتروي الحقيقة، تحكي عن شعب لم تهزمه القيود، وعن فنٍ بات صرخةً في وجه الطغيان.

لم تكن أعماله مجرد مشاهد صامتة، بل رسائل تستصرخ الضمير العالمي، تحكي عن الأيادي الصغيرة التي امتدت لالتقاط فتات الحياة، عن الأمهات اللواتي ودّعن أبناءهن وتركوا خلفهن ظلالًا لا تُمحى. لوحاته لم تكن مجرد ألوان على سطح معدني، بل شظايا من ذاكرة محطمة يعيد تشكيلها بريشته، ليؤكد أن الحكاية لم تنتهِ، وأن المقاومة لا تزال مستمرة، ولو بأبسط الأدوات.

ختام الحكاية

لم يكن يبحث عن الشهرة، ولم يطمح إلى معارض عالمية، بل كان حلمه أبسط وأعظم في آنٍ واحد: أن يرى أبناء بلده يتأملون أعماله، فيدركون أن قصتهم ما تزال تُروى، وأن أصواتهم لا تزال تصدح، وأن الأمل ما يزال حيا.

في أحد الأيام، وقف طفل صغير أمام إحدى لوحاته، تأملها طويلًا، ثم نظر إلى الفنان وسأله: «هل هذه بيوتنا التي دُمرت مرسومة على المعلبات؟»، فابتسم الفنان بثقة وقال: «نعم، لكنها ستعود، كما تعود الألوان إلى اللوحة بعد كل مسحٍ مؤلم».

في غزة، حتى العلب الفارغة تنطق بالحقيقة، وحتى الجدران التي هدّمتها القنابل تبقى شاهدة، والفن، ما دام هناك قلب فلسطيني ينبض، لن يموت أبدا.

من نحن

موقع اعلامي يهتم بالشؤون السياسية والقضايا الاجتماعية والشؤون الثقافية في لبنان والمنطقة العربية والعالم ويناصر القضايا المحقة للشعوب في مواجهة الاحتلال والاستبداد